للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله عزّ وجلّ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ يعني: أهل مكة. وهذا وعيد لهم بالعذاب. والمعنى:

سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب بِبَدْرٍ. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ وفيه أربعة أقوال: أحدها: الضالُّ، قاله الحسن. والثاني: الشيطان، قاله مجاهد. والثالث: المجنون، قاله الضحاك. والمعنى: الذي قد فتن بالجنون. والرابع: المعذَّب، حكاه الماوردي.

وفي الباء قولان: أحدهما: أنها زائدة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. وأنشدوا:

نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْف وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ «١»

والثاني: أنها أصلية، وهذا قول الفراء، والزجاج. قال الزجاج: ليس كونها لغواً بجائز في العربية في قول أحد من أهلها.

وفي الكلام قولان للنحويين: أحدهما: أن «المفتون» هاهنا: الفتون. والمصادر تجيء على المفعول. تقول العرب: ليس هذا معقود رأي، أي: عقد رأي، تقول: دعه إلى ميسوره، أي: يسره.

والمعنى: بأيكم الجنون. والثاني: بأيكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها، أم بفرقة الكفار؟ فيكون المعنى: في أي الفرقتين المجنون. وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج. وقد قرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: «في أي المفتون» . ثم أخبر أنه عالم بالفرقتين بما بعد هذا.

[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٨ الى ١٦]

فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢)

عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)

قوله عزّ وجلّ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وذلك أن رؤساء أهل مكة دَعَوْه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ فيه سبعة أقوال «٢» : أحدها: لو ترخص فيرخصون، قاله ابن عباس.


(١) البيت لراجز من بني جعدة، كما في «مجاز القرآن» ٢/ ٥ و «الخزانة» ٤/ ١٦٠ والفلج: موضع بنجد.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ١٨٢: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلبون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ وإنما هو مأخوذ من الدهن شبّه التليين في القول بتليين الدهن.
وقال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٠٥: وقال أهل اللغة: الإدهان هو التلبيس، معناه: ودوا لو تلبس إليهم في عملهم وعقدهم فيميلون إليك. وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة أي مدافعة. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنه استأذن على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة هو، أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول! فقال لي: «يا عائشة، إن شر الناس منزلة من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه» .
قلت: حديث صحيح. أخرجه البخاري ٦٠٥٤ و ٦١٣١ ومسلم ٢٥٩١ وأبو داود ٤٧٩١ والترمذي ١٩٩٦ وأحمد ٦/ ٣٨ والحميدي ٢٤٩ وابن حبان ٤٥٣٨ والبيهقي ١٠/ ٣٤٥ والبغوي ٣٥٦٣ من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير عن عائشة به.

<<  <  ج: ص:  >  >>