للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وغشيتْه أسبابُه، فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يَطْرِف، فكذلك هؤلاء، لأنهم يخافون القتل. فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ قال الفراء: يقول آذَوْكم بالكلام في الأمن بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ سليطة ذَرِبة، والعرب تقول: صَلَقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة هذا قول الفراء. وقد قرأ بالصاد أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة في آخرين. وقال الزجاج: معنى «سلقوكم» : خاطبوكم أشدَّ مخاطَبة وأبلَغها في الغنيمة، يقال: خطيب مِسْلاق: إِذا كان بليغاً في خطبته أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي: خاطبوكم وهُم أشحَّة على المال والغنيمة. قال قتادة: إِذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطُونا فلستم أحقَّ بها منَّا فأمَّا عند الباس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأمَّا عند الغنيمة، فأشحُّ قوم. وفي المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغنيمة. والثاني: على المال أن يُنفقوه في سبيل الله تعالى. والثالث: على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بظَفَره.

قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا أي: هُمْ وإِن أظهروا الإِيمان فليسوا بمؤمِنين، لنفاقهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ قال مقاتل أي: أبطلَ جهادهم، لأنه لم يكن في إِيمان وَكانَ ذلِكَ الإِحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. ثم أخبر عنهم بما يدل على جُبنهم، فقال: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي: يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجُبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ أي: يَرجعوا إِليهم كَرَّةً ثانية للقتال يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي: يتمنَّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي: ودُّوا لو أنَّهم بالبُعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهَدة، فَرَقاً وجُبناً وقيل: بل يَسألون شماتةً بالمسلمين وفرحاً بنكَبَاتهم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: إِلا رمياً بالحجارة، قاله ابن السائب. والثاني: إِلا رياءً من غير احتساب، قاله مقاتل.

ثم عاب من تخلّف بالمدينة بقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي: قُدوة صالحة. والمعنى: لقد كان لكم به اقتداءٌ لو اقتديتم به في الصبر معه كما صبر يوم أُحُد حتى كسرت رباعيّته وشجّ جبينه وقتل عمّه، وواساكم مع ذلك بنفسه. وقرأ عاصم: «أُسوةٌ» بضم الألف والباقون بكسر الألف وهما لغتان. قال الفراء: أهل الحجاز وأَسَد يقولون: «إِسوة» بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: «أُسوة» بالضم. وخَصَّ اللهُ تعالى بهذه الأُسوة المؤمنين، فقال: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ والمعنى أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلّم إِنما كانت لِمَن كان يرجو الله واليوم الآخر وفيه قولان: أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس. والثاني: يخشى الله عزّ وجلّ ويخشى البعث، قاله مقاتل.

قوله تعالى: وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي: ذِكْراً كثيراً، لأن ذاكر الله تعالى متَّبِع لأوامره، بخلاف الغافل عنه. ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وفي ذلك الوعد قولان: أحدهما: أنه قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ «١» الآية: فلمَّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، قاله ابن


(١) البقرة: ٢١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>