الأبيض، وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرّهبان، فأتى صومعته، فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطَّلع فرآه منتصباً يصلي على هيئة حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إِني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدَّب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يُقْبِلْ إليه برصيصا أربعين يوماً، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعِد إليه، فأقام معه حولاً لا يفطر إِلا كل أربعين يوماً، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوماً، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إِليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا، وكره مفارقته، فلما ودَّعه قال له الأبيض: إِن عندي دَعَوَاتٍ أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلي، فقال برصيصا: إِني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلاً، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة. فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إِبليس فقال: قد والله أهلكتُ الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرَّض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبِّب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنوناً فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إِني لا أقوى على جنِّيِّه، ولكن سأرشدكم إِلى من يدعو له فيعافى فقالوا له: دلّنا. فقال:
انطلقوا إِلى برصيصا العابد فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنه الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا، فيُعافَوْن، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبِّب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم. قال: إِن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تَدَعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصا، قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منَّا، وهو أعظم شأناً من ذلك؟! قال: إن قبلها، وإلا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا اليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده. وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال له: انزل إِليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسناً وجمالاً، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف اليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتُضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها قلت: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل به حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إِذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدَّقوه، وانصرفوا. وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعتْ اليكم، فتفرَّقوا ينظرون لها أثراً، فلما أمسَوْا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إِن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، وبرصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، وهو لا يكترث، فانطلق إِلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر، بمثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا