وافعل ذلك، وقرأ أبو جعفر، وحمزة، وخلف، والمفضّل، عن عاصم «فصرهنّ» بكسر الصاد. قال اليزيدي: هما واحد، وقال ابن قتيبة: الكسر والضم لغتان. قال الفراء: أكثر العرب على ضم الصاد، وحدثني الكسائي أنه سمع بعض بني سليم يقول: صرته، فأنا أصيره. وروي عن ابن عباس ووهب، وأبي مالك، وأبي الأسود الدؤلي، والسدي، أن معنى المكسورة الصاد: قطعهن.
قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، قال الزجاج: معناه: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً. وروى عوف عن الحسن قال: اذبحهن ونتّفهنّ، ثم قطّعهنّ أعضاء، ثم خلّط بينهنّ جميعا، ثم جزّأهما أربعة أجزاء، وضع على كل جبل جزءاً. ثم تنحى عنهن، فدعاهن، فجعل يعدو كل جزء إلى صاحبه حتى استوين كما كن، ثم أتينه يسعين. وقال قتادة: أمسك رؤوسها بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبضعة إلى البضعة، وهو يرى ذلك، ثم دعاهنّ، فأقبلن على أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه. وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان:
أحدهما: أنه قسمهنّ على أربعة جبال، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. وروي عن ابن عباس قال:
جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الأرض، كأنه يعني جهات الإنسان الأربع. والثاني: أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبال، قاله ابن جريج، والسدي.
قوله تعالى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، قال ابن قتيبة: يقال: عدواً، ويقال: مشياً على أرجلهن، ولا يقال للطائر إذا طار: سعى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي: منيع لا يغلب حَكِيمٌ فيما يدبر.
ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد، وقبل نزول الصحف عليه، وهو ابن خمس وسبعين سنة «١» .
(١) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ٢٨٣: اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟. فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السّلام شاكّا في إحياء الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به. ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الخبر كالمعاينة» . وقال الأخفش: لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. قال ابن عطية: وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال ما في القرآن آية أرجى عندي منها وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ثم رجّح الطبري هذا القول. قلت: حديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» . قال ابن عطية: وما ترجم به الطبري عندي مردود. وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس: «هي أرجى آية» . فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا وليست فطنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقيح وبحث. وأما قول عطاء: «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس» فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدّم. وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم أحرى ألا يشك فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي ورد فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ذلك محض الإيمان» إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى. إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم أعلم به يدلك على ذلك رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلّة والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا. وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متفرد الوجود عند السائل والمسؤول. ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبّرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، فلما كانت عبارة الخليل إبراهيم عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى فكمل الأمر وتخلّص من كل شك ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.