للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ «أو» بمعنى الواو، لأنها لو لم تكن كذلك، لكان وجوب الطّهارة على المريض والمسافر غير متعلق بالحدث. والغائِط: المكان المطمئن من الأرض، فكني عن الحدث بمكانه، قاله ابن قتيبة. وكذلك قالوا للمزادة: راوية، وإنما الرَّاوية للبعير الذي يُسقى عليه، وقالوا للنساء: ظعائن، وإِنما الظعائن: الهوادج، وكنَّ يكن فيها، وسموا الحدث عذرة، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدّور.

قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «أو لامستم» بألف هاهنا، وفي (المائدة) وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف في اختياره، والمفضّل عن عاصم، والوليد بن عتبة، عن ابن عامر «أو لمستم» بغير ألف هاهنا، وفي «المائدة» .

وفي المراد بالملامسة قولان: أحدهما: أنها الجماع، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الملامسة باليد، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، والنخعي، والنهدي، والحكم، وحماد. قال أبو علي: اللّمس يكون باليد، وقد اتسع فيه، فأوقع على غيره، فمن ذلك وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ «١» أي: عالجنا غيب السماء، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة، ويخبرهم به. فلما كان اللّمس يقع على غير المباشرة باليد، قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ «٢» فخصّ اليد، لئلا يلتبس بالوجه الآخر، كما قال: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ «٣» لأنّ الابن قد يتبنّى وليس من الصّلب «٤» .


(١) سورة الجن: ٨.
(٢) سورة الأنعام: ٧.
(٣) سورة النساء: ٣٣. [.....]
(٤) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١/ ٢٥٦: المشهور من مذهب أحمد، رحمه الله، أن لمس النساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة وهذا قول علقمة، وأبي عبيدة، والنخعيّ، والحكم، وحمّاد، ومالك، والثوري، وإسحاق، والشعبي، فإنهم قالوا: يجب الوضوء على من قبل لشهوة، ولا يجب على من قبل لرحمة. وممن أوجب الوضوء ابن مسعود وابن عمر، والزهري والشافعي. قال أحمد: المدنيون والكوفيون ما زالوا يرون أن القبلة من اللمس تنقض الوضوء، حتى كان بأخرة وصار فيهم أبو حنيفة، فقالوا:
لا تنقض الوضوء. ويأخذون بحديث عروة ونرى أنه غلط. وعن أحمد، رواية ثانية، لا ينقض اللمس بحال.
وروي ذلك عن علي، وابن عباس وبه قال أبو حنيفة، إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها، لما روى حبيب عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل امرأة من نسائه، وخرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ. وهو حديث مشهور. ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بهذا شرع ولا هو في معنى ما ورد الشرع به، وقوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أراد به الجماع، بدليل أن المس أريد به الجماع فكذلك اللمس، ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة، والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين. وعن أحمد رواية ثالثة، أن اللمس ينقض بكل حال. وهو مذهب الشافعي، لعموم قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين. وأما حديث القبلة فكل طرقه معلولة، قال يحيى بن سعيد: احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء. واللمس لغير شهوة لا ينقض، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمس زوجته في الصلاة وتمسّه. ولو كان ناقضا للوضوء لم يفعله، قالت عائشة: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلّي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي. متفق عليه.
وفي حديث آخر: فإذا أراد أن يوتر مسني برجله. يحققه أن اللمس ليس بحدث في نفسه، وإنما نقض لأنه يفضي إلى خروج المذي أو المني فاعتبرت الحالة التي تقضي إلى الحدث فيها، وهي حالة الشهوة. ولا فرق بين الأجنبية وذات المحرم، والكبيرة والصغيرة. وقال الشافعي: لا ينقض لمس ذوات المحارم، ولا الصغيرة في أحد القولين، لأن لمسهما لا يفضي إلى خروج خارج، أشبه لمس الرجل الرجل. ولنا عموم النص، واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة، ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع. وسئل أحمد عن المرأة إذا مست زوجها؟ قال: ما سمعت فيه شيئا، ولكن هي شقيقة الرجل. يعجبني أن تتوضأ لأن المرأة أحد المشتركين في اللمس، فهي كالرجل. وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشهوة، لأن ما ينتقض بالتقاء البشرتين لا فرق فيه بين اللامس والملموس. وفيه رواية أخرى: لا ينتقض وضوء المرأة ولا وضوء الملموس، وللشافعي قولان كالروايتين. ووجه عدم النقض أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء، فيتناول اللامس من الرجال، فيختص به النقض، كلمس الفرج. ولأن المرأة والملموس لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص، وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل.

<<  <  ج: ص:  >  >>