للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الناس، فيجدونه كما قالوا، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتاب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتاب في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان جاء شيطان إلى نفر من بني إسرائيل، فدلهم على تلك الكتاب وقال: إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا ففشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذ بنو إسرائيل تلك الكتاب، فلما جاء محمّد صلّى الله عليه وسلّم، خاصموه بها، هذا قول السّدّيّ.

و «سليمان» : اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، وقد جعله النابغة سليماً ضرورة، فقال:

ونسج سليم كل قضّاء ذائل «١» واضطر الحطيئة فجعله: سلاَّماً، فقال:

فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاءَ محكمة من نسج سلاَّم

وأرادا جميعاً: داود أبا سليمان، فلم يستقم لهما الشعر، فجعلاه: سليمان وغيّراه. كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي.

وفي قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ دليل على كفر الساحر، لأنهم نسبوا سليمان إلى السحر، لا إلى الكفر. قوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم بتشديد نون (ولكنّ) ونصب نون (الشياطين) . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف النون من «لكنْ» ورفع نون «الشياطين» . قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وقرأ ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والزهري «الملِكين» بكسر اللام، وقراءة الجمهور أصح. وفي «ما» قولان «٢» : أحدهما: أنها


(١) في «اللسان» : صدر البيت: وكل صموت نثلة تبّعيّة. والصموت: الدروع التي إذا صبت لم يسمع لها صوت.
والقضاء من الدروع: التي فرغ من عملها وأحكمت. والذّائل: الدرع الطويلة الذّيل.
(٢) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٤٩٧. القول في تأويل قوله تعالى وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل «ما» التي في قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى «لم» . ذكر من قال ذلك: عن ابن عباس قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ، فإنه يقول: لم ينزل الله السحر.
وعن الربيع بن أنس: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال: ما أنزل الله عليهما السحر.
فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع، من توجيههما معنى قوله وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إلى: ولم ينزل على الملكين-: واتّبعوا الذي تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السّحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر، بِبابِلَ، هارُوتَ وَمارُوتَ فيكون حينئذ قوله: بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ من المؤخّر الذي معناه التقديم.
فإن قال قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون معنيا ب «الملكين» : جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهما الله بذلك، وأخبر نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السّحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلّم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمانهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت. فيكون «هاروت وماروت» ، على هذا التأويل، ترجمة على «الناس» وردّا عليهم. وقال آخرون: بل تأويل «ما» التي في قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ- «الذي» .
- وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٥٠- ٥١: قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ «ما» نفي، والواو للعطف على قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهنّ، قال الله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وقال الشاعر:
أعوذ بربي من النّافثات.....
إن قال قائل: كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حدّ المبدل منه، فالجواب من وجوه ثلاثة، الأول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، كما قال تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا والثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون أتباعهما كما قال تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ. الثالث: إنما خصّا بالذكر من بينهم لتمردهما، كما قال تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وقوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله، كقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وقوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وإما لطيبه فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وإما لأكثريته، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا» وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية، والله أعلم. وقد قيل: إن «ما» عطف على السحر وهي مفعولة، فعلى هذا يكون «ما» بمعنى الذي، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا، ولله أن يمتحن عباده بما شاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>