للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدها: أن الاستثناء في حق الموحِّدين الذين يخرجون بالشفاعة، قاله ابن عباس، والضحاك.

والثاني: أنه استثناء لا يفعله، تقول: والله لأضربنَّك إِلا أن أرى غير ذلك، وعزيمتك على ضربه، ذكره الفراء، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس: «إِلا ما شاء ربك» قال: فقد شاء أن يخلَّدوا فيها. قال الزجاج: وفائدة هذا، أنه لو شاء أن يرحمهم لرحمهم، ولكنه أعلمنا أنهم خالدون أبداً. والثالث: أن المعنى: خالدين فيها أبداً، غير أن الله تعالى يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم، فيرجع الاستثناء إِلى تلك الحال، قاله ابن مسعود. والرابع: أن «إِلا» بمعنى «سوى» تقول: لو كان معنا رجل إِلا زيد، أي: سوى زيد فالمعنى: خالدين فيها مقدار دوام السّماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود والزيادة، وهذا اختيار الفراء. قال ابن قتيبة: ومثله في الكلام أن تقول: لأُسْكنَنَّك في هذه الدار حولاً إِلا ما شئتَ تريد: سوى ما شئتَ أن أزيدك. والخامس: أنهم إِذا حُشروا وبُعثوا، فهم في شروط القيامة فالاستثناء واقع في الخلود بمقدار موقفهم في الحساب، فالمعنى: خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إِلا مقدار موقفهم للمحاسبة، ذكره الزجاج. وقال ابن كيسان: الاستثناء يعود إِلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب قال ابن قتيبة: فالمعنى: خالدين في النار وخالدين في الجنة دوام السماء والأرض إِلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك، فكأنه جعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد على ما كانت العرب تستعمل، وإن كانتا قد تتغيَّران. واستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة والنار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا، لا في الجنة، ولا في النار. والسادس: أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيراً وشهيقاً، إِلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تُذكر وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذُكر، ولهم مما لم يُذكر ما شاء ربك، ذكره الزجاج أيضاً. والسابع: أنّ «إلّا» بمعنى «كما» ، ومنه قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «١» ، ذكره الثعلبي.

فأما الاستثناء في حق أهل الجنة، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه استثناء لا يفعله. والثاني: أن «إِلا» بمعنى «سوى» . والثالث: أنه يرجع إِلى وقوفهم للحساب ولبثهم في القبور. والرابع: أنه بمعنى: إِلا ما شاء أن يزيدَهم من النعيم الذي لم يذكر. والخامس: أنّ «إلّا» بمعنى «كما» وهذه الأقوال قد سبق شرحها. والسادس: أن الاستثناء يرجع إِلى لبث من لبث في النار من الموحِّدين، ثم أُدخل الجنة، قاله ابن عباس، والضحاك، ومقاتل. قال ابن قتيبة: فيكون الاستثناء من الخلود مُكث أهل الذنوب من المسلمين في النار، فكأنه قال: إِلا ما شاء ربك من إِخراج المذنبين إِلى الجنة، وخالدين في الجنة إِلا ما شاء ربّك من إدخال المذنبين النار مدّة «٢» .


(١) سورة النساء: ٢٢.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ١١٨: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب: القول الذي ذكرته عن الضحاك وهو: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ، من قدر مكثهم في النار، من لدن دخولها إلى أن دخلوا الجنة، وتكون الآية معناها الخصوص، لأن الأشهر من كلام العرب في «إلا» توجيهها إلى معنى الاستثناء وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها، إلا أن يكون معها دلالة تدل على خلاف ذلك، ولا دلالة في الكلام، أعني في قوله: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ تدل على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام، فيوجه إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>