للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وجرى على ذلك عادة العرب في قولهم: أكلت آل فلان السّنة. يريدون مسّهم الضّر، في عام الجدب، وزمان الأزل «١» . حتى كأنهم ليسمون السنة المجدبة: الضّبع. فيقولون: أكلتهم الضّبع. أي نهكتهم سنة الجدب.

وقال بعضهم: إنما نسب تعالى الأكل إليهنّ، لأن الناس يأكلون فيهن ما ادّخروه، ويستنفدون ما أعدّوه. كما يقال: يوم آمن. وليل خائف. أي يأمن الناس في هذا، ويخافون في هذا.

وقوله سبحانه: لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) «٢» .

[وهذه استعارة. لأنه تعالى أقام كيد الخائنين] مقام الخابط في الطريق، ليصل إلى مضرّة المكيدة وهو غافل عنه فأعلمنا سبحانه أنه لا يهديه، بمعنى لا يوفّقه لإصابة الغرض، ولا يسدّده لبلوغ المقصد، بل يدعه يخبط في ضلاله، ويتسكّع في متاهه، لأنه كالسّاري في غير طاعة الله، فلا يستحق أن يهدى لرشد، ولا يتسدّد لقصد.

وقوله سبحانه: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي [الآية ٥٣] . وهذه استعارة. لأن النفس لا يصحّ أن تأمر على الحقيقة.

ولكن الإنسان لما كان يتبع دواعيها إلى الشهوات، وينقاد بأزمّتها إلى المقبّحات، كانت بمنزلة الآمر المطاع، وكان الإنسان بمنزلة السامع المطيع.

وإنما قال سبحانه: لَأَمَّارَةٌ. ولم يقل لآمرة، مبالغة في صفتها بكثرة الدفع في المهاوي، والقود إلى المغاوي. لأنّ «فعّالا» «٣» من أمثلة الكثير، كما أن «فاعلا» من أمثلة القليل.

وقوله سبحانه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الآية ٧٦] . وهذه استعارة. لأنه ليس هناك على الحقيقة بناء يوطّد، ولا درجات تشيّد. وإنما المراد به تعلية معالم الذكر في الدنيا، ورفع منازل الثواب في الآخرة.

وقوله سبحانه:


(١) . الأزل: الضيق، والشدّة، والداهية.
(٢) . أصل الآية كاملة: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) .
(٣) . فعّال: أي الصيغة التي على وزن فعّال. وهذه تدل على الكثرة والمبالغة، فالرجل القتّال، هو الكثير القتل.