للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المبحث الثالث أسرار ترتيب سورة «النحل» «١»

أقول: وجه وضعها بعد سورة الحجر: أنّ آخرها شديد الالتئام بأول هذه، فإن قوله تعالى في آخر تلك:

وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩) الذي هو مفسر بالموت، ظاهر المناسبة لقوله تعالى هنا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [الآية ١] . وانظر كيف جاء في المقدمة بيأتيك اليقين، وفي المتأخرة بلفظ الماضي، لأن المستقبل سابق على الماضي، كما تقرر في المعقول والعربية «٢» .

وظهر لي أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم، وإنما تأخّرت عنها لمناسبة سورة «الحجر» ، في كونها من ذوات الر.

وذلك: أن سورة إبراهيم وقع فيها ذكر فتنة الميت، ومن هو ميت وغيره «٣» ، وذلك أيضا في هذه، بقوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [الآية ٢٨] . فذكر الفتنة، وما يحصل عندها من الثبات والإضلال، وذكر هنا ما يحصل عقب ذلك من النعيم والعذاب «٤» .


(١) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٣٩٨ هـ: ١٩٧٨ م.
(٢) . مراد المؤلّف ان المضارع سابق على الماضي في الكلام والإخبار، لا في الزمان. فقولك الآن: يقوم الناس لرب العالمين يوم القيامة، سابق في الخبر. ولا يجوز أن يقال: قام الناس لرب العالمين يوم القيامة إلا بعد تمام ذلك البعث.
(٣) . وذلك في قوله تعالى: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) ( [إبراهيم] .
(٤) . وذلك في قوله تعالى عن العذاب: فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [الآية ٢٩] . وفي النعيم: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ( [الآية ٣١] .