عابدا له، مجاهدا في سبيله، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولا يخشى في الله لومة لائم.
[حكمة خلق عيسى (ع)]
انتقلت السورة من قصّة ميلاد يحيى (ع) إلى قصّة ميلاد عيسى (ع) وقد تدرّج السياق من القصة الأولى، ووجه العجب فيها ولادة العاقر من بعلها الشيخ، إلى الثانية، ووجه العجب فيها ولادة العذراء من غير بعل، وهي أعجب وأغرب.
وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلا، وإنشائه على هذه الصورة فإن حادث ولادة عيسى بن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، ويكون حادثا فذّا لا نظير له من قبله ولا من بعده.
والبشرية لم تشهد خلق نفسها. وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها.
إنها لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب ولا أم. وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث، فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية، في مولد عيسى من غير أب، على غير السّنّة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر، ثمّ تظلّ في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذّة، تتلفّت إليها الأجيال، إن عزّ عليها أن تتلفّت إلى العجيبة الأولى، التي لم يشهدها إنسان! لقد جرت سنّة الله في امتداد الحياة، بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل بلا استثناء.
حتى المخلوقات التي لا ذكر منها وأنثى، تتجمّع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث. جرت هذه السّنّة أحقابا طويلة حتى استقرّ في تصوّر البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأوّل.
حادث وجود الإنسان، لأنه خارج عن القياس. فأراد الله سبحانه أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم (ع) ليذكّرهم بحرّيّة القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها ولم يتكرر حادث عيسى (ع) ، لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره.
وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرّيّة المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس: