تنفرد سورة المائدة بجملة من الظواهر لا نكاد نجد شيئا منها في غيرها من السور، حتى في أطول سور القرآن وهي البقرة، ذلك أنها لم تتحدث عن الشرك، ولا عن المشركين، على النحو الذي ألف في القرآن: من محاجتهم، وتسفيه أحلامهم، وتحقير شركائهم وأنها لم تعرض، في قليل ولا في كثير، لما عهد في أكثر السور المدنية، التي نزلت قبلها، من الحث على القتال، والتحريض عليه، ورسم خطط النصر والظفر بأعداء الله المشركين، كما نراه في سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والأنفال، والتوبة، لأن المسلمين في ذلك الوقت، لم يكونوا بحاجة إلى شيء من هذا الحديث، لقد اندحر الشرك وصار المشركون في قهر وذلة ويأس.
ولكن إذا كان المشركون قد انقضى عهدهم، والمسلمون قد علا شأنهم، فإنّ المسلمين في حاجة إلى إكمال التشريع المنظم لشئونهم، على وجه يضمن لهم دوام السعادة، ويحفظ لهم السيادة، ولهم بعد ذلك صلات خاصة بطوائف من أهل الكتاب، يعيشون في ذمتهم وعهدهم، ويخالطونهم في حياتهم ومعاملاتهم، ومن هنا نتبين أن المسلمين، في ذلك الوقت، كانوا في حاجة إلى ما يعنيهم في الجانبين:
جانب أنفسهم، وجانب علاقتهم بأهل الكتاب، وبذلك دار كل ما تضمنته سورة المائدة، على أمرين بارزين:
تشريع المسلمين في خاصة أنفسهم وفي معاملة من يخالطون، وإرشادات لطرق المحاجة والمناقشة، وبيان الحق في المزاعم التي كان يثيرها أهل الكتاب، مما يتصل بالعقائد والأحكام، وفي سياق هذه المحاجة، تعرض السورة لكثير من مواقف الماضين، من أسلاف أهل الكتاب، مع أنبيائهم تسلية للنبي (ص) من جهة، وتنديدا بهم عن طريق أسلافهم، من جهة أخرى.
٤- تشريع القرآن
نزل القرآن على رسول الله (ص) لينشئ به أمة وليقيم به دولة ولينظم به