للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولعل الحكمة في تقدير تلك المهلة، بأربعة أشهر، أنها هي المدة التي كانت تكفي لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض، والتقلّب في شبه الجزيرة، على وجه يمكّنهم من التشاور والأخذ والرد، مع كل من يريدون أخذ رأيه، في تكوين الرأي الأخير. قال تعالى:

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) .

ومن رحمة الإسلام أيضا، إباحة تأمين المشرك، وتقرير عصمة المستأمن، وقد أوجب الله على المسلمين حماية المستأمن، في نفسه وماله، ما دام في دار الإسلام، وجعل لأفراد المسلمين حق إعطاء ذلك الأمان، (فالمسلمون عدول يسعى بذمتهم أدناهم) .

والإسلام يبيح، بهذا الأمان، التبادل التجاري والصناعي والثقافي، وسائر الشؤون ما لم يتصل شيء منها بضرر الدولة. وقد كان للإسلام من مشروعية الأمان، وسيلة قوية لنشر دعوته، وإيصال كلمة الله إلى كثير من الأقاليم النائية، من غير حرب ولا قتال. قال تعالى:

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) .

فالإسلام يمنح الجوار والأمان للمشرك، الذي يبحث عن الحقيقة، ويريد أن ينظر في الإسلام نظر تأمل ودراسة، فيسمح له بالدخول فيما بين المسلمين والتعامل معهم، والاختلاط بهم، حتى يفهم حكم الله ودعوته. فإن اطمأن ودخل الإيمان في قلبه، التحق بالمؤمنين، وصار في الحكم كالتائبين.

وإن لم يشرح صدره للإسلام وأراد الرجوع إلى جماعته، حرم اغتياله، ووجبت المحافظة عليه، حتى يصل مكان أمنه واستقراره.

وبذلك بلغ الإسلام شأوا بعيدا في حماية الفكر والنظر، وتذليل الطريق أمام الباحثين والمفكّرين، وحمايتهم حتى يصلوا إلى مواطن الأمان، أيّا كانت معتقداتهم، وصدق الله العظيم:

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: ٢٥٦] .

[غزوة تبوك]

في السنة التاسعة من الهجرة، وصلت للرسول (ص) أنباء، تفيد أن