للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يجيبونهم عن سؤال، إذا قد أبهموا طريقي السماع والجواب، وهما الآذان والأفواه. وشاهد ذلك قوله سبحانه حاكيا عن نوح عليه السلام، يعني قومه: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) [نوح] فيكون معنى رد أيديهم في أفواههم على القول الذي قلنا، أن يمسكوا أفواههم بأكفهم، كما يفعل المظهر الامتناع عن الكلام. ويكون إنما ذكر تعالى ردّ الأيدي هاهنا- وهو يفيد فعل الشيء ثانيا بعد أن فعل أوّلا- لأنهم كانوا يكثرون هذا الفعل عند كلام الرسل عليهم السلام. فوصفوا في هذه الآية بما قد سبق لهم مثله، وألف منهم فعله، فحسن ذكر الأيدي بالرد على الوجه الذي أومأنا إليه. وأيضا فقد يقول القائل لغيره: أردد إليك يدك.

بمعنى اقبضها وكفّها. لا يريد غير ذلك.

وقوله سبحانه: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) . وهذه استعارة. لأن المقام لا يضاف إلّا الى من يجوز عليه القيام. وذلك مستحيل على الله سبحانه، فإذن المراد به يوم القيامة، لأن الناس يقومون فيه للحساب، وعرض الأعمال على الثواب والعقاب، فقال سبحانه في صفة ذلك اليوم: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) [المطفّفين] .

وإنما أضاف تعالى هذا المقام إلى نفسه في هذا الموضع، وفي قوله:

وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) [الرحمن] لأن الحكم في ذلك اليوم له خالصا، لا يشاركه فيه حكم حاكم، ولا يحادّه أمر آمر. وقد يجوز أن يكون المقام هاهنا معنى آخر، وهو أن العرب تسمي المجامع التي تجتمع فيها لتدارس مفاخرها، وتذاكر مآثرها «مقامات» و «مقاوم» . فيجوز أن يكون المراد بالمقام هاهنا الموضع الذي يقصّ فيه سبحانه على بريّته محاسن أعمالهم، ومقابح أفعالهم، لاستحقاق ثوابه وعقابه، واستيجاب رحمته وعذابه.

وقد يقولون: هذا مقام فلان ومقامته، على هذا الوجه، وإن لم يكن الإنسان المذكور في ذلك المكان قائما، بل كان قاعدا أو مضطجعا. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ