دلالة عليه في اللفظ، بل أبلغ، لأنه أضمر في اللفظ ما يناقضه وينافيه وهو قوله تعالى فَفَسَقُوا
فكأنه أظهر شيئا، وادّعى إضمار نقيضه، فكان صرف الأمر إلى ما ذكرنا من المجاز، هو الوجه هذا كله كلام الزمخشري، ولا أعلم أحدا من أئمّة التفسير صار إليه غيره ثم إنه أيّد فقال: ونظيره أمر «شاء» ، في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده تقول: لو شاء فلان لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد لو شاء الإحسان الأحسن، ولو شاء الإساءة إليك لأساء، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت فتعني، ولو شاء الإساءة لأحسن إليك، ولو شاء الإحسان لأساء إليك وتقول قد دلّت حال من أسدت إليه المشيئة، أنه من أهل الإحسان دائما، ومن أهل الإساءة دائما: فيترك الظاهر المنطوق به، ويضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة، لم تكن على سداد.
فإن قيل: على الوجه الأول، لو كان المضمر المحذوف الأمر بالطاعة كان مخصوصا بالمترفين، لأن أمر الله تعالى بالطاعة، عامّ للمترفين وغيرهم.
قلنا: أمر الله بالطاعة وإن كان عامّا، ولكن لمّا كان صلاح الأمراء والرؤساء وفسادهم، مستلزما لصلاح الرعيّة وفسادها غالبا خصّهم بالذكر. ويؤيد هذا ما جاء في الخبر «صلاح الوالي صلاح الرعيّة، وفساد الوالي فساد الرعيّة» .
فإن قيل: قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ [الآية ١٨] يدل على أن من لم يزهد في الدنيا ولم يتركها، كان من أهل النار، والأمر بخلافه.
قلنا: المراد من كان يريد بإسلامه وطاعته وعبادته الدنيا لا غير، ومثل هذا لا يكون إلّا كافرا أو منافقا ولهذا قال ابن جرير: هذه الآية لمن لا يؤمن بالمعاد، وأما من أراد من الدنيا قدر ما يتزوّد به إلى الاخرة، فكيف يكون مذموما مع أن الاستغناء عن الدنيا بالكلّيّة وعن جميع ما فيها، لا يتصوّر في حق البشر، ولو كانوا أنبياء، فعلم أن المراد ما قلنا.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) أي ممنوعا، ونحن نرى ونشاهد في الواقع، أن واحدا أعطاه قناطير مقنطرة، وآخر منعه العطاء حتى الحبّة؟