للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الدافنين للأموات مضلّين، لأنّهم يغيّبونهم في الأرض قال النابغة الذبياني في ذلك:

فآب مضلّوه بعين جليّة وغودر بالجولان حزم ونائل يريد دافنيه، وحكى الأصمعي أنه رواه مصلّوه بالصاد، وفتحها، والمصلّي الوارد بعد السابق، قال فكأنّ المعنى أنّ ناعيه الأوّل جاء بنعيه، فشكّ في قوله، ثمّ جاء الثاني بجملة الخبر، فوقع العلم وارتفع الشكّ، والعين الجليّة، الواضح الّذي يتجلّى بعد خفائه، أو يجلو الشك بعد التباسه وأنشد للمخبّل السعدي يمدح قيس بن عاصم المنقريّ:

أضلّت بنو قيس بن سعد عميدها وفارسها في الدّهر قيس بن عاصم أي دفنته في التراب وغيبته في الأرض.

- وقوله سبحانه: فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) .

وقد تقدّم مثل هذه اللفظة، في بعض السور المتقدّمة ولم نشر إليه إذ كان في الأشهر بيّن التأويل، خارجا عن الاستعارة، لأنّه عند عامّة المفسّرين، بمعنى المنزل والنزول، فكأنّه تعالى قال كانت لهم جنان الفردوس منزلا ينزلونه، وقرارا يستوطنونه، فلمّا بلغنا الى هذا الموضع من هذه السورة، نظرنا فإذا لهذه اللفظة مجاز آخر يدخلها في حيّز الاستعارة، فذكرناها لهذه العلّة، وهو أنّ لفظ النّزل عند بعضهم قد عبّر به عمّا يقرى به الضيف عند طروقه، ويعدّ له قبل نزوله، فيجوز أن يكون معنى قوله تعالى:

فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) أي أعدّ لهم في جنّات الله ما يعدّ للضّيوف لأنهم ضيفان الله تعالى في جنّاته، وجيرانه في داره ليس أنّ هناك قربا بمسافة، ولا وصفا في أداء إقامة، وإنما أوجب هذا الاختصاص، في قولنا: ضيفان الله، وجيران الله، لأنهم نزول في الدار، الّتي لا يملك الحكم فيها غيره، ولا يتسلّط عليها إلّا سلطانه، كما قيل إنّ قريشا كانوا يسمّون قطين الله، إذ كانوا جيران بيته الّذي اختصّه، وفرض على الناس حجّه، ومن الشاهد قول عبد الله بن قيس الرقيّات:

أتانا رسول من رقيّة ناصح بأنّ قطين الله بعدك سيّرا