استعارة. والمراد أنّه عليه الصّلاة والسّلام بعث ليقدّم الإنذار أمام وقوع العقاب، إزاحة للعلّة، وقطعا للمعذرة.
وقد تقدّمت إشارتنا إلى نظائر هذه الاستعارة في عدّة مواضع من هذا الكتاب.
وقوله سبحانه: قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) . وهذه استعارة. لأن الإبداء والإعادة يكونان في القول، ويكونان في الفعل. فأمّا كونهما في الفعل فبقوله سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: ٢٧] وأمّا كونهما في القول، فإنّ القائل يقول: سكت فلان فلم يعد ولم يبدئ. أيّ لم يتكلم ابتداء ولا أحار جوابا. وهاتان الصّفتان يستحيل أن يوصف بهما الباطل، الّذي هو عرض من الأعراض، إلّا على طريق الاتّساع والمجاز.
وإنّما المراد أنّ الحقّ قوي وظهر، والباطل ضعف واستتر، ولم يبق له بقيّة يقوى بها بعد ضعفه، ويجبر بعد وهنه. أي ما تقوم له قائمة في بدء ولا عود. والبدء: الحال الأولى، والعود:
الحال الأخرى. وكذلك الإبداء والإعادة.
ويجوز أن يكون لذلك وجه آخر، وهو أن يكون المعنى، أنّ الباطل كان عند غلبة الحقّ وظهوره، بمنزلة الواجم الساكت، والحائر الذاهل، الّذي لا قدرة له على الحجاج، ولا قوّة له على الانتصار. كقولهم:«سكت فما أعاد ولا أبدأ» عند وصف الإنسان بالحيرة أو غلبة الفكرة.
وقد قيل أيضا في ذلك وجه آخر، يخرج به الكلام عن حيّز الاستعارة، وهو أن يكون المراد أنّ صاحب الباطل لا يبدئ ولا يعيد عند حضور صاحب الحقّ، ضعفا عن حجاجه، وضلالا عن منهاجه. فجعل المضاف هاهنا في موضع المضاف إليه. وذلك كثير في كلامهم.
وقوله تعالى: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وهذه استعارة.
والمراد بذلك، والله أعلم، أنّهم يقولون ما لا يعلمون، ويظنّون ولا يتحقّقون. فهم بمنزلة الرّامي غرضا بينه وبينه مسافة متباعدة، فلا يكون سهمه أبدا إلّا قاصرا عن الغرض، وعادلا عن السّدد.