ظهر النبيّ (ص) - كدأبه- بمظهر القائد المحنّك والحكيم البعيد النظر، إذ التفت إلى عمر وقال:«فكيف إذا تحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» ؟ ولكنه قدّر في الوقت نفسه أنه إذا لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر. لذلك أمر أن يؤذّن في الناس بالرحيل، في ساعة لم يكن يرتحل فيها المسلمون.
وترامى الى ابن أبيّ ما بلغ النبيّ (ص) عنه، فأسرع الى حضرته ينفي ما نسب إليه ويحلف بالله ما قاله ولا تكلّم به، ولم يغيّر ذلك من قرار النبيّ بالرحيل.
قال ابن اسحق: «فلمّا استقلّ رسول الله (ص) وسار، لقيه أسيد بن الحضير، فحيّاه بتحية النبوّة وسلم عليه، ثمّ قال: يا نبيّ الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول الله (ص) : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأيّ صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبيّ. قال وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. قال أسيد: فأنت يا رسول الله، والله، تخرجه منها إن شئت، هو، والله، الذليل وأنت العزيز، في عزّ من الرحمن ومنعة المسلمين. قال أسيد:
يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثمّ مشى رسول الله (ص) بالناس يومهم ذاك حتّى أمسى، وليلتهم حتّى أصبح، وصدر يومهم ذاك حتّى آذتهم الشمس ثمّ نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما. وإنّما فعل ذلك رسول الله ليشغل الناس عن كلام عبد الله بن أبيّ.
ونزلت سورة (المنافقون) في ابن أبيّ، ومن كان على مثل أمره. ولمّا نزلت السورة قال رسول الله (ص) : يا غلام، إنّ الله قد صدّقك وكذّب المنافقين.
ولما ظهر كذب عبد الله بن أبيّ، قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب الى رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه وقال: أمرتموني أن أؤمن فأمنت، وأمرتموني أن أزكّي مالي فزكّيت، وما بقي إلّا أن أسجد لمحمد، فنزل فيه قوله تعالى: