للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

استعارتان. فالأولى منهما إطلاق صفة الاستهزاء سبحانه، والمراد بها أنّه تعالى يجازيهم على استهزائهم بإرصاد العقوبة لهم، فسمّى الجزاء على الاستهزاء باسمه، إذ كان واقعا في مقابلته، والوصف بحقيقة الاستهزاء غير جائز عليه تعالى، لأنه عكس أوصاف الحليم، وضد طريق الحكيم، والاستعارة الأخرى قوله تعالى:

وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي يمدّ لهم كأنّه يخلّيهم والامتداد في عمههم، والجماع في غيّهم، إيجابا للحجّة، وانتظارا للمراجعة، تشبيها بمن أرخى الطّول للفرس أو الراحلة، ليتنفّس خناقها، ويتسع مجالها.

وربما جعل قوله سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الآية ٩] «١» على أنّه مستعار في بعض الأقوال، وهو أن يكون المعنى أنّهم يمنّون أنفسهم ألّا يعاقبوا، وقد علموا أنّهم مستحقون للعقاب، فقد أقاموا أنفسهم بذلك مقام المخادعين، ولذلك قال سبحانه: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) «٢» .

وقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) وهذه استعارة.

والمعنى أنّهم استبدلوا الغيّ بالرشاد، والكفر بالإيمان، فخسرت صفقتهم، ولم تربح تجارتهم. وإنّما أطلق سبحانه على أعمالهم اسم التجارة لما جاء في أول الكلام، بلفظ الشّرى تأليفا لجواهر النظام، وملاحمة بين أعضاء الكلام.

وقوله سبحانه: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الآية ٢٠] . وهذه استعارة، والمراد يكاد يذهب بأبصارهم من قوة إيماضه وشدة التماعه. والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية ٤٣ من سورة النّور: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ومحصّل المعنى: تكاد أبصارهم تذهب عند رؤية البرق، فجعل تعالى الفعل للبرق دونها لمّا كان السبب في ذهابها.


(١) . كان من حق هذه الآية في الترتيب أن تأتي قبل الآية العاشرة التي سبق الحديث عنها في قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إلخ ولا أدري أكان ذلك سهوا من المؤلف رضي الله عنه، أم سهوا من الناسخ حيث وضعها في غير موضعها، وأنزلها في غير ترتيبها.
(٢) . في الأصل (وما يخادعون) على أنها قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، ليتجانس اللفظان في الموضعين. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر «يخدعون» ، كما أثبتاه. وكما نقرأه في المصحف الذي بين أيدينا.