هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلّا في الكتاب العزيز ... وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بني على مقصد، واعترض في أثنائه عارض، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول، وقد بعد عهده، طرّي بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته، وقد تقدّم لذلك في الكتاب العزيز أمثال، وهذا منها، فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، ثم، اعترض ذكر الجواب المضمّن في قوله سبحانه:
قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، إلى قوله بَغْتَةً، أريد تتميم سؤالها عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمّن في قوله جلّ وعلا: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده فطرّي ذكره تطرية عامة ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال، كالتذكرة للأوّل مستغنى عن تفصيله بما تقدّم، فمن ثمّ قيل: يَسْئَلُونَكَ، ولم يذكر المسؤول عنه وهو الساعة، اكتفاء بما تقدم، فلما كرّر السؤال لهذه الفائدة، كرّر الجواب أيضا مجملا، فقيل: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ.
أقول: واستعمال «حفيّ» في العربية المعاصرة يكون بتطلّبه الباء حرف جر بعده، فيقال: هو حفيّ بما فاز به.
قوله تعالى: فَلا تُنْظِرُونِ بكسر النون، اجتزئ بالكسرة عن الياء.
لم يكن ذلك من خطّ المصحف الذي جرى على نمط خاص، وإنما كان ذلك لسبب صوتي، هو أنّ أواخر الآيات قد ختمت بالنون في الأسماء والأفعال نحو الشاكرين وصامتين والصالحين ويؤمنون ويشركون وغيرها وإنما حرّكت النون في هذه الآية بالكسرة، كي يستغنى عنها عند الوقف على آخر الآية، فتكون كسائر الفواصل الأخرى ولا يتأتّى ذلك، لو أثبتت الياء. وإذا كان هذا هو السبب في حذف الياء والاستغناء عنها بالكسرة، فما السبب في حذف الياء في الذي يسبق قوله تعالى: فَلا تُنْظِرُونِ، وهو قوله سبحانه:
كِيدُونِ؟ الجواب عن هذا: أن الياء حذفت استحسانا لتأتي الكلمة مشاكلة للكلمة الأخرى التي ختمت بها الآية قوله: فَلا تُنْظِرُونِ.
والمشاكلة في الأصوات كثيرة في لغة التنزيل، وهي تؤدي غرضا صوتيا