لأنه منازعة، فكيف تجوز المناظرة، وهي منازعة وجدال؟
قلنا: المراد بالمنازعة هنا: المنازعة في أمر الحرب والاختلاف فيه، لا المنازعة في إظهار الحق، بالحجة والبرهان، والدليل عليه أن ذلك مأمور به.
قال الله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] لكن للجواز شروط، يندر وجودها في زمننا هذا:
أحدها، أن يكون كل المقصود منها ظهور الحق على لسان أيّ الخصمين، كما كانت مناظرة السلف، وعلامة ذلك أن لا يفرح بظهور الحق على لسانه، أكثر ممّا يفرح بظهوره على لسان خصمه.
فإن قيل: كيف قال إبليس كما ورد في التنزيل إِنِّي أَخافُ اللَّهَ [الآية ٤٨، والمائدة: ٢٨] وهو لا يخاف الله، لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضلّ عبيده؟
قلنا: قال قتادة، لقد صدق وعد الله في قوله كما روى القرآن ذلك، حكاية عنه: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الآية ٤٨] يعني جبريل والملائكة (ع) معه نازلين من السماء لنصرة المسلمين يوم بدر، وكذب في قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له بهم. وقيل لمّا رأى نزول الملائكة على صورة لم يرها قط، خاف قيام الساعة التي هي غاية إنظاره، فيحل به العذاب الموعود. وقيل معنى أَخافُ اللَّهَ: أعلم صدق وعده لنبيّه النصر، وقد جاء الخوف بمعنى العلم، ومنه قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [الآية ٢٢٩] ويحتمل عندي أن يكون خاف أن يحل به الملائكة ما دون الإهلاك من الأذى إذ لم يخف الإهلاك، ثم أقول: كيف تؤخذ عليه كذبة واحدة وهو أفسق الفسقة، وأكفر الكفرة، فلا عجب في كذبه، وإنما العجب في صدقه.
فإن قيل: أي مناسبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) ؟
قلنا: لما أقدم المؤمنون، وهم ثلاث مائة وبضعة عشر، على قتال المشركين، وهم زهاء ألف، متوكّلين على الله، وقال المنافقون: غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا، أو أكثر، قال الله تعالى ردّا على المنافقين، وتثبيتا للمؤمنين: وَمَنْ