للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجوده، أبلغُ في تعظيمه عند الملائكة. والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما يظهر قدرته في قول: كُنْ فَيَكُونُ. والرابع: انه علّم عباده التثبُّت، فاذا تثبت من لا يزلُّ، كان ذو الزّلل أولى بالتثبُّت. والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، أبعد من أن يُظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق.

قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال الخليل بن أحمد: العرش: السرير وكل سرير لملك يسمى عرشاً وقلما يُجمع العرش إلا في اضطرار واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام. قال أُمية بن أبي الصلت:

مجِّدوا الله فَهْو لِلمَجْدِ أهْلُ ... ربُّنا في السَّمَاءِ أمْسَى كَبِيْرا

بالبناء الأعلى الذي سبق النَّا ... س وسوَّى فوق السمَّاءِ سَرِيرَا

شَرْجَعَاً لا يَنَالُهُ نَاظِرُ العَيْ ... نِ تَرَى دُوْنَه المَلائِكَ صُوْرا

وقال كعب: إن السماوات في العرش كالقنديل معلَّق بين السماء والأرض. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن سعد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء. وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية. وقد شذَّ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك. وهذا عدول عن الحقيقة الى التجوُّز، مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله عزّ وجلّ: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أتراه كان المُلك على الماء؟

وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء؟ وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى «١» ، ويحتج بقول الشاعر:

حتَّى اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقٍ

وبقول الشاعر أيضاً:

هُمَا اسْتَويا بِفَضْلِهِما جَمِيْعاً ... عَلى عَرْشِ المُلوكِ بغَيْرِ زُوْرِ

وهذا منكر عند اللغويين. قال ابن الاعرابي: العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم. قالوا: وإنما يقال: استولى فلان على كذا، إذا كان بعيداً عنه غير متمكن منه، ثمّ


(١) قال الإمام القرطبي في «تفسيره» ٧/ ٢١٩ بعد أن ذكر مذهب المتكلمين: وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة، لا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة، بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه، وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخصّ العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم- أي في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها اه.
وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٢٨٠ عند هذه الآية: للناس في هذا المقام مقالات كثيرة، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهي إمرارها كما جاءت، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى اه.

<<  <  ج: ص:  >  >>