وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١) مع أن أصحاب الشمال يقرءون كتابهم ولا يظلمون أيضا؟
قلنا: إنما خصّ أصحاب اليمين بذكر القراءة، لأن أصحاب الشمال إلا رأوا ما في كتبهم من الفضائح والقبائح، أخذهم من الحياء والخجل والخوف ما يوجب حبسة اللسان، وتتعتع الكلام، والعجز عن إقامة الحروف، فتكون قراءتهم ك «لا قراءة» فأمّا أصحاب اليمين، فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم، حتى يقول القارئ لأهل المحشر هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩)[الحاقة] . وأمّا قوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١) فهو عائد إلى كلّ الناس، لا إلى أصحاب اليمين.
الثاني: أنّه عائد إلى أصحاب اليمين خاصة، وإنما خصّهم بذلك، لأنّهم يعلمون أنهم لا يظلمون، ويعتقدون ذلك بخلاف أصحاب الشمال، فإنّهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون، يعضد هذا الوجه قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)[طه] .
فإن قيل لم قال موسى (ع) لفرعون كما ورد في التنزيل قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ يعنى الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الآية ١٠٢] يعني بيّنات وحججا واضحات وفرعون لم يعلم ذلك، لأنه لو علم ذلك، لم يقل لموسى عليه السلام كما ورد في التنزيل إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) أي مخدوعا، أو قد سحرت، أو ساحرا، مفعول بمعنى فاعل على اختلاف الأقوال، بل كان يؤمن به وكيف يعلم ذلك، وقد طبع الله على قلبه وأضلّه، وحال بينه وبين الهدى والرشاد، ولهذا قرأ عليّ كرم الله وجهه لَقَدْ عَلِمْتَ [الآية ١٠٢] بضم التاء، وقال: والله ما علم عدوّ الله، ولكن موسى (ع) ، هو الذي علم.
واختار الكسائي وثعلب قراءة عليّ رضي الله عنه، ونصراها، بأنه لمّا نسبه إلى أنّه مسحور، أعلمه بصحّة عقله؟
قلنا: معناه لقد علمت، لو نظرت نظرا صحيحا إلى الحجّة والبرهان، ولكنّك معاند مكابر، تخشى فوات دعوى الإلهية لو صدقتني فكان فرعون ممن أضلّه الله على علم، ولهذا بلغ ابن عباس قراءة علي رضي الله عنه ويمينه، فاحتج بقوله تعالى