عن الخضوع والتذلّل، وهما ضد العلوّ والتعزّز. إذ كان الطائر إنّما يخفض جناحه إذا ترك الطيران، والطيران هو العلوّ والارتفاع. وقد يستعار ذلك لفرط الغضب والاستشاطة. فيقال قد طار فلان طيرة، إذا غضب واستشاط.
وقد أومأنا إلى هذا المعنى فيما تقدّم.
وإنّما قال سبحانه: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الآية ٢٤] ليبيّن تعالى أنّ سبب الذل لهما الرأفة والرحمة، لئلّا يقدّر أنه الهوان والضراعة. وهذا من الأغراض الشريفة، والأسرار اللطيفة.
وقوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الآية ٢٩] وهذه استعارة. وليس المراد بها اليد التي هي الجارحة على الحقيقة، وإنّما الكلام الأول كناية عن التقتير، والكلام الاخر كناية عن التبذير وكلاهما مذموم، حتى يقف كل منهما عند حدّه، ولا يجري إلّا إلى أمده.
وقد فسّر هذا قوله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)[الفرقان] .
وقوله سبحانه: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الآية ٤٦] . وهذه استعارة لأنه ليس هناك على الحقيقة كنان على قلب، ولا وقر في سمع. وإنّما المراد أنهم، لاستثقالهم سماع القرآن عند أمر الله سبحانه نبيّه عليه السلام بتلاوته على أسماعهم وإفراغه في آذانهم، كالذين على قلوبهم أكنّة دون علمه، وفي آذانهم وقر دون فهمه، وإن كانوا من قبل نفوسهم أتوا، وبسوء اختيارهم أخذوا ولو لم يكن الأمر كذلك، لما ذمّوا على اطّراحه، ولعذروا بالإضراب عن استماعه.
وقوله سبحانه: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الآية ٤٧] وهذه استعارة لأن النجوى مصدر كالتقوى. وإنّما وصفوا بالمصدر، لما في هذه الصفة من المبالغة في ذكر ما هم عليه، من كثرة تناجيهم، وإسرار المكايد بينهم. والصفة بالمصادر تدلّ على قوة الشيء الموصوف بذلك مثل قولهم: رجل رضا وقوم عدل. وما يجرى هذا المجرى.