قوله تعالى فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ [الآية ٦٩] بوضع الظاهر موضع الضمير، مغن عنه، كما قال تعالى وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [الآية ٦٩] من غير تكرار؟
قلنا: الحكمة فيه، تصدير التشبيه بذم المشبه بهم، باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا، واشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة الباقية، وطلب الفلاح في الاخرة، وتهجين حالهم، وتقبيح صفتهم، ليكون التشبيه بعد ذلك أبلغ في ذم المشبّهين بأولئك الأوّلين، كما تريد أن تنبّه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير حق، ويظلم ويفسق وأنت تفعل مثل فعله. وأمّا قوله تعالى وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [الآية ٦٩] فإنه لمّا كان معطوفا على ما قبله وهو التشبيه المصدّر بتلك المقدّمة، أغنى ذلك عن إعادة تلك المقدّمة المذكورة، للتقبيح والتهجين.
فإن قيل: قوله تعالى أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الآية ٦٩] فحبوط العمل، إن كان عبارة عن بطلان ثوابه، فذلك إنّما يكون في الاخرة، وإن كان عبارة عن بطلان منفعته، فأعمال المنافقين في الدنيا ليست باطلة المنفعة، لأنهم ينتفعون بها في حقن دمائهم وأموالهم، وجريان أحكام المسلمين عليهم؟
قلنا: المراد بالأعمال، إن كانت نوعي أعمالهم الدينية والدنيوية فالحبوط في الدنيا راجع إلى أعمالهم الدنيوية وهي كيدهم ومكرهم وخداعهم ونفاقهم الذي كانوا يقصدون به إطفاء نور الله تعالى، ودفع آياته وبيّناته. ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون، فلم ينالوا من ذلك ما أملوه وقصدوه من إبطال دين الله تعالى، وستر نبوّة محمد (ص) .
والحبوط في الاخرة، راجع إلى أعمالهم الدينية، وهي عباداتهم وطاعاتهم لأنهم فعلوها نفاقا ورياء فبطل ثوابها في الاخرة، وإن كان المراد بأعمالهم مجرّد الأعمال الدينية، فحبوطها في الدنيا هو عدم قبولها، لأن الله تعالى يقبل العبادة في الدنيا، ثم يثيب عليها في الاخرة، والمراد بحبوطها في الدنيا، عدم قبولها، وعدم إطلاق الأسماء الشريفة عليها، كالعبادة والقربة والحسنة، ونحو ذلك وهذا