أفصح العرب وأعلمهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، حتّى قال لمّا نزلت هذه الآية: إن الله تعالى قد رخّص لي فسأزيد على السبعين. وفي رواية أخرى. فسأستغفر لهم أكثر من السبعين، لعلّ الله أن يغفر لهم؟
قلنا: لم يخف عليه ذلك، وإنّما أراد بما قال إظهار غلبة رحمته ورأفته، بمن بعث إليهم، كما وصفه الله تعالى بقوله لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الآية ١٢٨] . وفي إظهار النبي (ص) الرأفة والرحمة لطف لأمته، وحثّ لهم على التراحم، وشفقة بعضهم على بعض وهذا دأب الأنبياء (ع) ، ألا ترى إلى قول إبراهيم صلوات الله عليه كما ورد في التنزيل وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)[ابراهيم] .
فان قيل: لم قال تعالى ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) والمغفرة والرحمة إنما تكون للمسيئين، لا للمحسنين؟
قلنا: معناه والله غفور رحيم للمسيئين إذا تابوا، فهو متعلّق بمحذوف لا بالمحسنين، لأنهم قد سدّوا بإحسانهم طريق العقاب والذم، فليس عليهم سبيل فيهما. الثاني، أنّ المحسن من الناس، وإن تناهى في إحسانه لا يخلو من إساءة بينه وبين الله تعالى، أو بينه وبين الناس، لكنه إذا أحسن باجتناب الكبائر، غفر الله له صغائر سيئاته، ورحمه، كما قال تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: ٣١] .
فإن قيل قوله تعالى فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [الآية ١٠٥] أي سيعلم، لأن السين للاستقبال، والرؤية من الله تعالى بمعنى العلم، والله تعالى عالم بعملهم حالا ومالا؟
قلنا: معناه في حقّ الله، أنه سيعلمه واقعا موجودا كما علمه غيبا، لأن الله تعالى يعلم كلّ شيء على ما هو عليه، فيعلم المنتظر منتظرا، ويعلم الواقع واقعا وأما في حق الرسول (ع) فهو على ظاهره.
فإن قيل: إن الله تعالى، قد وصف العرب بالجهل في القرآن، بقوله سبحانه وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ [الآية ٩٧] فكيف يصح الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم، على كتاب الله وسنة رسوله (ص) ؟