للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

انحنت ظهورهم، انثنت صدورهم.

فأعلمنا الله سبحانه أنهم، وإن أغلقوا أبوابهم، وأسدلوا ستورهم، واستغشوا ثيابهم- بمعنى اشتملوا بها، وبمعنى أدخلوا رؤوسهم فيها على ما قاله بعضهم- فإنه تعالى يعلم غيب صدورهم، ودخائل قلوبهم، ومرامز أعينهم، ومحاذف «١» ألسنتهم.

وقوله سبحانه وتعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وهذه استعارة لأن إذاقة الرحمة ونزعها ليسا بحقيقة هاهنا.

وإنما المراد بذلك أنّا إذا رحمنا الإنسان بعد توبته من مواقعة [في] «٢» بعض الذنوب فقبلنا متابه، وأسقطنا عقابه، ثم واقع بعد ذلك ذنبا آخر، واستحق أن نعاقبه وأن نزيل رحمتنا عنه، يئس من الرحمة وقنط من المغفرة. وليس الأمر كذلك، لأنه إذا عاود الإقلاع، أمن الإيقاع.

وقد أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن يواقع المعصية، فيقنط من قبول التوبة. فمعنى أذقنا الإنسان منّا رحمة.

أي عرّفناه أنّا قد رحمناه. إذ قد أوجبنا قبول التوبة إذا أخلص العبد فيها، وأتى بها على شروطها وحدودها.

ومعنى ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ أي أزلنا عنه رحمتنا لأجل اقترافه المعصية التي اقترفها في الثاني «٣» . وقد يجوز أن يكون المراد بالرحمة هاهنا- والله أعلم- النعمة والسّرّاء. ويكون انتزاعها منه بمعنى إبداله بها الشّدّة والضّرّاء، إجراء له في مضمار الابتلاء والاختبار، أو مصلحة يكون معها أقرب الى الإصلاح «٤» والرشاد. ومما يقوّي ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) .

وقوله سبحانه: وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ [الآية ٢٨] . وهذه استعارة. لأن الرحمة لا توصف بالعمى وإنما يوصف الناس بالعمى عن تمييز مواقعها. وإدراك مواضعها. فلما


(١) . هكذا بالأصل. ولعلّها مرامي الألسنة بالكلام، كما يحذف بالحجر أي يرمى به.
(٢) . هذه اللفظة بالأصل. ولعلّها زائدة لأن المعنى يستقيم بدونها، ولهذا وضعناها بين حاصرتين.
(٣) . هكذا بالأصل، ولم نهتد الى تصويب لها.
(٤) . في المتن: الإصلاح، وقد غيرت في الهامش الى «الصلاح» بدلا منها.