للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وصفوا بالعمى عنها حسن أن يوصف بذلك في القلب «١» . كما يقال: أدخلت الخاتم في إصبعي، والمغفر في رأسي. وإنما الأصبع دخلت في الخاتم، والرأس دخل في المغفر. وقد يجوز أن يكون قوله سبحانه: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، بمعنى خفيت عليكم، كما يقول القائل: قد عمي عليّ خبرهم.

وعمي عليّ أثرهم. أي خفي عني الأثر والخبر.

وقوله سبحانه: وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً [الآية ٣١] . وهذه استعارة.

كما يقول القائل: اقتحمت فلانا عيني، واحتقره طرفي. إذا قبح في منظر عينه خلقه، وصغر دمامة. ليس أن العين على الحقيقة يكون منها الاحتقار، أو يجوز عليها الاستصغار.

وقوله سبحانه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [الآية ٣٤] وذكر الإغواء هاهنا من قبيل الاستعارة، وإن لم يكن من صريحها. وكذلك لفظ المكر، والاستهزاء، وما يجري هذا المجرى. لأن المراد بمعاني هذه الألفاظ غير المراد بظواهرها. فالمتعارف من الإغواء هو الدعاء الى الغيّ والضلال.

وذلك غير جائز على الله سبحانه، لقبحه وورود أمره بضده. والمراد إذن بالإغواء هاهنا تخييبه سبحانه لهم من رحمته، لكفرهم وذهابهم عن أمره.

ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى:

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) [مريم] ، أي خيبة من الرحمة، وارتكاسا في النقمة. وقد جاء لفظ الإغواء، والمراد به التخييب في كثير من منثور كلامهم، ومنظوم أشعارهم.

ويجوز أن يكون الإغواء هاهنا بمعنى الإهلاك لهم. ويجوز أن يكون بمعنى الحكم بالغواية عليهم.

وقوله سبحانه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [الآية ٣٧] . وهذه استعارة.

ومعناها: واصنع الفلك بأمرنا، ونحن نرعاك ونحفظك. ليس أنّ هناك عينا تلحظ، ولا لسانا يلفظ. وذلك كما يقول القائل: أنا بعين الله. أي بمكان من حفظ الله. ومن كلامهم للظّاعن


(١) . ليس القلب هنا بمعنى الجارحة التي في الجسم، ولكنه القلب اللفظي والمعنوي، كما نقول: أدخلت الخاتم في الإصبع بدلا من أدخلت الإصبع في الخاتم.