«ضاق به ذرعا» في الآية السابقة، يدلان دلالة واضحة على مكانة البداوة وتأثيرها في العربية، وكيف أنها أمدّت هذه اللغة بذخائر حوّلها الاستعمال وأبعد عنها صفة البداوة، فصارت من مواد الحضارة. ومن المفيد أن أشير الى أن الفعل «هرع» بني في استعمالهم على ما لم يسمّ فاعله: وقالوا معناه المعلوم مثل سقط وحمّ وغمّ وغير ذلك. غير أن المعربين في عصرنا، درجوا على بنائه على «فعل يفعل» نظير «سطع يسطع» ، وكأن التنبيه على موطن التجاوز والخطأ أفاد، فبدأ إصلاحهم للخطأ.
١٣- وقال تعالى: وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ [الآية ٨٩] .
قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ، أي: لا يكسبنّكم شقاقي إصابة العذاب.
و «جرم» مثل «كسب» في تعدّيه الى مفعول واحد والى مفعولين: تقول:
جرم ذنبا وكسبه، وجرمته ذنبا وكسبته إيّاه، قال:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وقرأ ابن كثير بضم الياء من «أجرمته ذنبا» إذا جعلته جارما له، أي: كاسبا، وهو منقول من «جرم» المتعدّي الى مفعول واحد، كما نقل «أكسبه المال» من «كسب المال» ، وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إيّاه، فكذلك لا فرق بين «جرمته ذنبا» و «أجرمته إيّاه» .
والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما، إلّا ان المشهورة أفصح لفظا «١» .
أقول: وليس لنا شيء من هذا الفعل. بهذه الدلالة أو ما يقرب منها في عربيتنا المعاصرة.
١٤- وقال تعالى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [الآية ٩٢] .
والظّهريّ: الذي تجعله بظهر، أي:
تنساه وتغفل عنه، والمراد بالآية أي لم تلتفتوا إليه، وتركتم أمر الله وراء ظهوركم.
قال ابن سيده: واتّخذ حاجته ظهريّا، استهان بها كأنّه نسبها الى الظّهر، على غير قياس، كما قالوا في النّسب الى البصرة بصريّ.