المستثنى في الظاهر، وهو قوله سبحانه في الآية نفسها: إِلَّا مَنْ رَحِمَ لأن المرحوم معصوم، فظاهره يقتضي «١» لا معصوم إلّا من رحم: أي لا معصوم من الغرق بالطوفان إلّا من رحمه الله بالإنجاء في السفينة؟
قلنا: عاصم هنا بمعنى معصوم، كقوله تعالى: مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦)[الطارق] أي مدفوق، وقوله تعالى:
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١)[الحاقة] أي مرضية، وقول العرب: سرّ كاتم: أي مكتوم. الثاني أن معناه: لا عاصم اليوم من أمر الله إلّا من رحم، أي إلا الراحم وهو الله تعالى، وليس معناه المرحوم، فكأنه قال: لا عاصم إلا الله. الثالث أن معناه: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، ونجّاهم وهو السفينة، ويناسب هذا الوجه قوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وهذا لأنّ ابن نوح عليه السلام، لمّا جعل الجبل عاصما من الماء، ردّ نوح عليه السلام، ذلك، ودلّه على العاصم وهو الله تعالى، أو المكان الذي أمر الله بالالتجاء إليه، وهو السفينة.
فإن قيل: كيف صح أمر السماء والأرض بقوله تعالى وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [الآية ٤٤] وهما لا يعقلان، والأمر والنهي إنما يكون لمن يفعل ويفهم الخطاب؟
قلنا: الخطاب لهما في الصورة، والمراد به الخطاب للملائكة الموكّلين بتدبيرهما. الثاني: أن هذا أمر إيجاب لا أمر إيجاد، وأمر الإيجاد لا يشترط فيه العقل والفهم، لأن الأشياء كلها بالنسبة الى امر الإيجاد مطيعة منقادة لله تعالى، ومنه قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)[يس] وقوله تعالى:
فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصّلت/ ١١] كل ذلك أمر إيجاد.
فإن قيل: لم قال تعالى هنا: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [الآية ٤٥] بالفاء، وقال في قصة زكريا عليه الصلاة
(١) . قوله (فظاهره يقتضي إلخ) لا يخفى أنه على هذا الظاهر لا ورود لصورة الإشكال، إذ هو عين ما صدر به في الجواب عنه فكان المناسب في تقدير السؤال، بقاء العاصم على حقيقته، وهو الحافظ، وجعل المراد ممّن رحم، المرحوم لا الراحم، وهو الله تعالى، كما هو أحد التأويلات.