ثم رشح للقضاء ببلد القصر، وتقلد به تلك الخطة التي هو أحق بها وأولى، وذلك عام واحد وثلاثمائة وألف.
وكان خروجه من مكناس مسقط رأسه لمحل مأموريته القصر الكبير في السادس عشر من ربيع الثاني عامه، ودامت توليته للقضاء ستة أعوام، ولم يشغله القضاء عن التدريس والتقييد، تخرج عليه قادات أجلة، وكانت دروسه للمنتهين أفيد ما خاض في مسألة الإقرار فيها فنونا وأتى بما يبهر العقول، من منقول ومعقول فيبرز المعقول، في قالب المحسوس بأسهل عبارة وأبدع أسلوب، له من المقدرة على التصرف في الكلام والتفنن في أفانين التعبير وتنويع، الأمثلة ما أبهت كل معاند، لا يخشى أحدا, ولا يراقبه لين العريكة، يتواضع مع العالم والجاهل، يبتدئ بالسلام كل من لقيه عرفه أو لم يعرفه، يباسط الصغير والكبير، قليل السعد مع الولاة وذى الحيثيات، صادق الفراسة.
اجتمع يوما مع جمع حفيل من أعيان الأعلام في وليمة وقد تأخر بعض الأعلام المعزومين عن الوقت المعين للحضور فيه، فسأل عنه رب المنزل فأجابه المترجم بقوله: إنه يطالع مسألة ليلقيها علينا، فلما جاء الفقيه واستقر به الجلوس، والتفت إلى المترجم وقال له أيها الفقيه ما معنى قوله تعالى: {... وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ... (٦٠)} [سورة الإسراء آية ٦٠] مع أن الشجرة لا تكليف عليها، فلا تستحق اللعن الذي هو الطرد عن رحمة الله، فنفر القوم بعضهم إلى بعض تصديقا للفراسة، ثم أجابه المترجم بما معناه في الآية احتمالان: الأول أن يكون اللعن بمعنى الذم مجازا لا بمعنى الطرد، وهي أي الشجرة شجرة الزقوم قد ذمها الله تعالى فهي مذمومة، الثاني أن يكون المجاز في الإسناد أي الملعون آكلها وهو الكافر قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)} [سورة