وكان في تدريسه لا يقتصر على شرح معين بل يطالع ما أمكنه من الشروح والحواشى ويراجع المسائل في أصولها ويعارض بين النقول، ويبين المردود منها والمقبول، هكذا كان دأبه في التفسير والحديث والكلام والفقه والأصول والنحو والبيان والمنطق والتصوف، موصوفا بالتحقيق والإتقان عند الخاص والعام، مرجوعا إليه في المعضلات العظام، مقدما في كل فن وخصوصا في النوازل والأحكام، لا يكاد يخالف فتواه أحد من القضاة والحكام، مع مروءة تامة، ودين متين وخوف من الله عظيم، وورع جسيم، لا يخالف قوله فعله في شدة ولا رخاء وكانت مجالسه كلها لا تخلو من مواعظ فلا يقوم الإنسان من بين يديه في أي فن كان غالبا إلا وقد أخذت مواعظه منه مأخذا، ولا يختلف في صلاحه ومعرفته اثنان من الصلحاء.
وقد سمعت العلامة قاضى الحضرة الإدريسية في وقته أبا محمَّد سيدي عبد القادر بوخريص رحمه الله - ورضي الله عنه - وأرضاه يقول: وبلغنى عنه ممن سمعه من الثقات أنَّه كان يمثل للمبرز في الصدر الأوَّل بسيدنا عمر بن عبد العزيز، وبعد ذلك بأبى محمَّد صالح، ويمثل له اليوم بسيدى محمَّد بن الحسن الجنوى، وكلامه هذا موافق في المعنى لقول سيدي جسوس فيه: وحيد زمانه، وفريد عصره وأوانه، علماً وعملاً ويأتى كلامه بتمامه.
وكان يخفى صلاحه كثيرا، ومما كاشفنا به مرة وهو ملازم بوزان وكانت الأسئلة والرسوم ترد عليه كثيرا وكنت أنا خديمه ومتولى أمره بإذنه أنَّه قال: قال لي أصحابنا الذين كانوا معنا إما أن تأخذ الأجرة من أرباب الرسوم، وإما أن تتركنا نتولى أمرها، وكان -رضي الله عنه - لا يأخذ على ذلك أجرا فقلت لهم: أنا لا آخذ من أحد شيئاً، وإن أردتم أن تتولوا ذلك بأنفسكم فافعلوا ونحن في مكاننا ليس معنى أحد ولم يطلع على ذلك إلا الله تعالى.