فكان إذا وافى الدير أَغلقوا الباب في وجهه، ولم يدعو الغلام يكلمه، فاشتد وجعه وزاد عشقه وكلفه، حتى صار إلى الجنون، فخرق ثيابه وأضرم النار في جميعها، ولزم صحراء الدير وهو عريان يهيم، ويعمل الأشعار.
قال الصنوبرى: فعبرت يوما أنا والمعوج الشامى من بستان بتنا فيه فرأيناه عريانا جالسا في ظل الدير، وقد طال شعره وتغيرت خلقته، فسلمنا عليه وعذلناه وعنفناه، فقال: دعانى من هذا الوسواس، أتريا ذلك الطير الذى على هيكل الدير؟ قلنا: نعم، قال: إنى والله أُناشده منذ الغداة أَن يسقط فأَحمله رسالة إلى عيسى، ثم التفت إلى وقال: يا صنوبرى أمعك ألواحك؟ قلت: نعم، قال اكتب عنى وأَنشد:
بدينك يا حمامة دير زكرى ... وبالإنجيل عندك والصليب
قفى وتحملى منى سلاما ... إلى قمر على غصن رطيب
حماه جماعة الرهبان عنى ... فقلبى لا يقر من الوجيب
وقالوا رابنا إلمام سعد ... ولا والله ما أنا بالمريب
وقولى سعدك المسكين يشكو ... لهيب جوى أحر من اللهيب
فصله بنظرة لك من بعيد ... إذا ما كنت تمنع من قريب
وإن أَنامت فاكتب حول قبرى ... محب مات من هجر الحبيب
رقيب واحد تنغيص عيش ... فكيف بمن له مائتا رقيب
قال: ثم تركنا وقام إلى باب الدير وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه، وما زال كذلك زمانا حتى وجد في بعض الأيام ميتا إلى جانب الدير فانتهى خبره إلى أمير البلد ابن كيغلغ، فعزم على ضرب رقبة الغلام وإحراقه بالنار، وضرب جميع الرهبان بالسياط حتى افتدوا منه بمائة ألف، وانتقل عيسى إلى دير سمعان مطرودا.