لثلاث بقين من جمادى الآخرة، ومشى ابنها الرشيد في جنازتها وعليه طيلسان أزرق وقد شد وسطه وأخذ بقائمة التابوت حافياً يخوض في الطين والوحل من المطر الذي كان في ذلك اليوم حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه وصلى عليها ودخل قبرها ثم خرج وتمثل بقول متمم [بن نويرة] الأبيات المشهورة، التى أوّلها:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم تصدق عنها بمال عظيم ولم يغير على جواريها وحواشيها شيئاً مما كان لهم.
وفيها توفيت غادر جارية الهادي وكانت بارعة الجمال، وكان الهادي مشغوفاً بحبها فبينما هي تغنيه يوما فّكر وتغيّر لونه وقال: وقع في نفسي أني أموت ويتزوجها أخي هارون من بعدي، فأحضر هارون واستحلفه بالأيمان المغلظة من الحج ماشياً وغيره [أنه لا يتزوجها «١» ] ، ثم استحلفها أيضاً كذلك، ومكث الهادي بعد ذلك أقل من شهر ومات وتخلف هارون الرشيد فأرسل هارون الرشيد خطبها «٢» ، فقالت له: وكيف يميني ويمينك؟ فقال: أكفر عن الكلّ، فتزوجته فزاد حب الرشيد لها على حب الهادي أخيه حتى إنها كانت تنام فتضع رأسها على حجره فلا يتحرك حتى تنتبه؛ فبينما هي ذات يوم نائمة [ورأسها «٣» ] على ركبته انتبهت فزعة تبكي وقالت: رأيت الساعة أخاك الهادي وهو يقول وأنشدت أبياتاً منها:
ونكحت عامدة أخي ... صدق الذي سماك غادر
فلم تزل تبكي وتضطرب حتى ماتت وتنغص عليه عيشه بموتها. وقيل: إن الرشيد ما حج ماشياً إلا بسبب اليمين التي كانت حلفه [إياها] أخوه الهادي بسببها. وفيها توفي محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، كان من وجوه بني العباس وتولّى