قال: فلمّا فصلوا من المدينة سمع العدوّ بمسيرهم فجمعوا لهم وقام فيهم شُرَحبيل بن عَمرو فجمع أكثرَ من مائة ألف وقدم الطّلائع أمامَه، وقد نزل المسلمون مُعانَ من أرض الشأء وبلغ النّاسَ أنّ هِرَقلَ قد نزلَ مآبَ من أرض البلقاء في مائة ألف من بَهراء ووائل وبكر ولَخم وجُذام. فأقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فنخبره الخبر، فشجّعهم عبد الله بن رَواحة على المُضيّ، فمضوا إلى مُؤتَةَ ووافاهم المشركون فجاءَ منهم ما لا قِبَل لأحد به من العدد والسلاح والكُراع والدّيباج والحرير والذهب، فالتقى المسلمون والمشركون فقاتل الأمراء يومئذ على أرجُلهم فأخذ اللواءَ زيد بن حارثة فقاتل، وقاتل المسلمون معه على صفوفهم، حتَّى قُتل طعنًا بالرّماح رحمه الله، ثمّ أخذ اللّواءَ جعفرُ بن أبي طالب فنزل عن فرس له شَقراء فعرقبها فكانت أولَ فرسٍ عُرقبت في الإسلام وقاتل حتى قُتِل، رضي الله عنه، ضربه رجل من الرّوم فقطعه بنصفين، فوُجد في أحد نصفيه بضعة وثلاثون جُرحًا ووُجد فيما قيل من بَدَن جعفر اثنتان وسبعون ضربةً بسيف وطعنةً برمح، ثمّ أخذ اللّواءَ عبدُ الله بن رَواحة فقاتل حتَّى قُتِل رحمه الله، فاصطلح النّاس على خالد بن الوليد فأخذ اللّواء وانكشف النّاس فكانت الهزيمة، فتبعهم المشركون فقُتِل مَن قُتل من المسلمين ورُفعت الأرض لرسول الله، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حتى نَظر إلى مُعتَرَك القوم. فلمّا أخذ خالد بن الوليد اللّواء قالَ رسول الله، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الآنَ حَمِىَ الوَطِيسُ! فلمّا سمع أهلُ المدينة بجيش مُؤتَةَ قادمين تلقّوهم بالجُرْف، فجعل النّاس يَحثُون في وجوههم الترابَ ويقولون: يا فُرّار! أفَررتم في سبيل الله؟ فيقول رسول الله، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ليسوا بفُرّار ولكنّهم كُرّار إن شاء الله!
أخبرنا بكر بن عبد الرحمن قاضى الكوفة، أخبرنا عيسى بن المختار عن محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلَى عن سالم بن أبي الجَعد عن أبي اليَسَر عن أبي عامر قال: بعثنى رسول الله، -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إلى الشأم، فلمّا رجعتُ مررت على أصحابي وهم يُقاتلون المشركين بمُؤتَة، قلت والله لا أبرح اليومَ حتى أنظر إلى ما يصير إليه