للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مصعب بن عمير يترك نعيم الدنيا]

الحمد لله معزِّ من أطاعه واتقاه، ومذلِّ من خالف أمره وعصاه، الناصر لمن ينصره من أهل طاعته وأوليائه -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- لك الحمد يا ربنا كما تُحب وترضى، وشكراً لك على صوابغ نعمك وآلاءك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.

وأشهد أن محمداًَ رسول الله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين ويا أجود الأجودين.

أما بعد:

فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، لقد سمعتم من أخبار السلف الصالح وإليكم هذا الخبر نكمل به ما تقدم، هذا مصعب بن عمير رضي الله عنه، أسلم مع الأوائل في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، وهو شاب في عنفوان الشباب، ولما كشفوا أمره وأخذوه؛ حبسوه وعذبوه، فلم يزل محبوساً معذباً حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، وهاجر مع من هاجر إلى المدينة، بل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم معلماً للأنصار يعلمهم القرآن، ويعلمهم الدين، وفي غزوةٍ من الغزوات قُتل هذا الشاب رضي الله عنه وأرضاه، خرَّ صريعاً شهيداً.

وكان في مكة مدللاً عند والديه، يلبس أحسن الثياب، ويتطيب بأحسن الطيب، ولكنه ترك زينة الحياة الدنيا، وأقبل على الله رضي الله عنه وأرضاه، ولما قتل، لم يجدوا شيئاً يكفنونه فيه سوى بردة، فكانوا إذا وضعوها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعوها على رجليه خرج رأسه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر} ثم يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الشاب وهو مقتولٌ مسجىً في بردته، فيقول والدموع تنزل من عينيه: {لقد رأيتك بـ مكة وما بها أحدٌ أرَقَّ حُلةً، ولا أحسن لمةً منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة، وقرأ عليه صلى الله عليه وسلم عليه هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:٢٣]}.

إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها أعمالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.

فاقتدوا بهم يا أمة الإسلام، وأكثروا من ذكرهم في المجالس، كم تتلى هذه الآيات! " رجال" يمدحهم الله في محكم البيان، فأنتم لا تنسوهم في مجالسكم، أكثروا من ذكرهم، وعلموا أولادكم أولئك الرجال.