[الحث على الإصلاح بين الناس]
الحمد لله رب العالمين, أمر بالإصلاح بين ذات البين، ورتب على ذلك الثواب الجزيل، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله يحب المقسطين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين, وسيد المرسلين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن توثيق عُرى المودة بين المسلمين، وتصفية القلوب من الغل والحقد والحسد، والحرص على ما يجلب المودة والتآلف والتناصر والتعاضد، وتجنب ما يوغر الصدور ويورث العداوة واجب تقتضيه الأخوة الإيمانية، والإيمان لا يكون تاماً إلا بذلك.
ولما كان الصلح بين المسلمين أفراداً أو جماعات يُثمر إحلال الألفة مكان الفرقة، واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل، وحقن الدماء التي تراق بين الطوائف المتنازعة، وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق والباطل، وتوفير الرسوم والنفقات الأخرى، وتجنب إنكار الحقائق التي تجر إليها الخصومات وترك شهادة الزور، وتجنب المشاجرات، والاعتداءات على الحقوق والنفوس، وتفرغ النفوس للمصالح بدل جدالها وانهماكها في الكيد والخصومات, إلى غير ذلك مما يثمره الصلح.
لذلك كله! أمر الله به في محكم التنزيل، فقال جلَّ وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:١] وهذا أمر من الله جلَّ وعلا، ويقول أيضاً: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:٩] ويقول عليه الصلاة والسلام: {المقسطون على منابر من نور يوم القيامة} يقول ربنا جلَّ وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:١٠] ويقول الله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وكذلك ورد في السنة النبوية الحث على الإصلاح وفضله، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن الإصلاح بين الناس تجارة، وأنه مما يرضاه الله ورسوله، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي أيوب وهو صحابي جليل: {ألا أدلك على تجارة؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا، وقرِّب بينهم إذا تباعدوا} رواه البزار والطبراني، وعند الطبراني: {ألا أدلك على عملٍ يرضاه الله ورسوله؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا، وقرِّب بينهم إذا تباعدوا}.
وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن درجة المصلح بين الناس أفضل من درجة الصائمين والمصلين والمتصدقين؛ لأنه يسعى في الإصلاح بينهم، فقد روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة} رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث صحيح، قال ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين}.
ولا غرو إذا ارتفعت درجة المصلح الباذل جهده، المضحي براحته وأمواله في رأب الصدع، وجمع الشتات، وإصلاح فساد القلوب، وإزالة ما في النفوس من ضغينة وحقد، والعمل على إحكام الروابط للألفة والإخاء، وإطفاء نار العداوة والفتن.