عباد الله: إن في القرآن عبراً لمن أراد الاعتبار، وهذا كتاب الله عز وجل يخبرنا أن الله أرسل الرسل ليحذروا الناس من الشرك، ويدعوهم إلى عبادة الواحد القهار، وذلك -يا عباد الله- أنه كان بين أبينا آدم إلى زمان نوحٍ عليه السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:[[وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوماً صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها؛ ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان، جعلوا أجساداً على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين، وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، ولما تفاقم الأمر وطغى الشرك فيهم بعث الله نوحاً عليه السلام يأمرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له]].
وقد أنزل الله فيه آيات كثيرة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ يسليه فيها ويخبره بما وقع على قوم نوح من العذاب والنكال، ومع الأسف الشديد قد وقع في كثير من البلدان الإسلامية من الأضرحة والمشاهد وغيرها التي تعبد من دون الله، ويطاف بها، ويدعون الأموات فيها من دون الله الشيء الكثير، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
وقد أنزل الله عز وجل في القرآن العظيم سورة كاملة فيها تفصيل تام عن دعوة نوحٍ عليه السلام، حتى نهاية ما حل بقومه من العذاب، يقول ربنا جل وعلا:
ومع هذا التذكير والنصح والإرشاد، فقد تمادى قوم نوحٍ في الكفر والضلال والعناد، وقد مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، فما لانت قلوبهم ولا انتفعت بالتذكير، ولا ازدادوا عند ذلك إلا عتواً ونفوراً، وعند ذلك قال:{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}[نوح:٢٦ - ٢٧] ولما دعا عليهم أمره الله بصنع السفينة فقال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[هود:٣٧] فلما انتهى من السفينة أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل.
فلما ركبوا في السفينة كما أمرهم الله، قال الله جل وعلا:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}[القمر:١١ - ١٢] أي: فالتقى ماء السماء مع ماء الأرض على حال قد قدره الله في الأزل وقضاه بإهلاك المكذبين غرقاً، فلم يبق على وجه الأرض شيء إلا أدركه الغرق، وهذه سنة الله في خلقه، وقد ورد في الأثر: لو أراد الله أن يرحم من قوم نوحٍ أحداً لرحم أم الصبي، فقد كان معها ابنها، وكلما ازداد الماء رفعته، فلما غرقت سقطت هي وإياه في الماء.