[حال العبد عند خروج روحه]
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوا العباد أيهم أحسن عملاً، قسمهم إلى قسمين: فمنهم شاكرٌ ومنهم كفور، وأحمده وأشكره وأساله أن يُوفقنا إلى صالح الأعمال والأخلاق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم اجعلها آخر كلامنا من الدنيا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس! اتقوا الله عزَّ وجل، واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده، ولا مولودٌ هو جاز عن والده شيئاً {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].
عباد الله! هل تعلمون ما ذلك اليوم؟ هو والله يوم القيامة يوم الطامة الكبرى يوم الصاخة يوم القارعة يوم الحاقة يوم الواقعة يومٌ تشقق السماء فيه بالغمام يومٌ تُفتح فيه السماء فتكون أبواباً، فينزل من كل سماءٍ ملائكتها ليحيطوا بأهل الموقف في ذلك اليوم العظيم، الذي يتجلَّى فيه الرب لفصل القضاء، الذي ينزل فيه الرب -جل وعلا- لفصل القضاء بين الخلائق.
عباد الله! إذا تحقق ذلك وآمنا به، علمنا حق اليقين أن هذه الحياة الدنيا لا بد لها من الزوال، وأنها دار ممر وعبورٌ إلى الآخرة، وأننا سننتقل منها إلى ما قدَّمنا من الأعمال، فتذكروا -عباد الله- حالتكم عند حلول الآجال، ومفارقة الأوطان والأهل والعيال، ومفارقة الأصدقاء الذين تأنسون بهم ويأنسون بكم.
تذكروا حينما تشاهدون الآخرة أمامكم، وأنتم مُقبلون إليها، مُدبرين عن الدنيا؛ تذكروا حالة الاحتضار، وعند نزول ملك الموت، هل أنت إذا قيل لك: قل: لا إله إلا الله تُبادر وتجيب؟ وتقول: لا إله إلا الله؟
أم تتلعثم ويثقل لسانك، وتجمد الأعضاء، وتفكر، وتقول: بما أمضيت من سيئ الأعمال.
عباد الله! {إن المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه؛ كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من الجنة، وحنوطٌ من الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ويجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان} يالها من فرحة وسرور يُقابل بها المؤمن عند خروجه من الدنيا! {يا أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيَّ السقا، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، فيجعلوها في ذلك الكفن، الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض؛ فيصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟
فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتح له فيفتح له، ويشيعه من كل سماء مُقربوها، إلى السماء التي تليها -إلى السماء السابعة- فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوها إلى الأرض فإني منها خَلَقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارة أخرى، قال: فتُعاد روحه إلى جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه.
فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟
فيقول: هو محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيقولان له: وما علمك؟
فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفتح له في قبره مدَّ البصر، ويأتيه رجلٌ حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب! أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، ويقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريحٍ جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها إلى السماء فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح لها فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:٤٠] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السُّفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:٣١] فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟
فيقول: هاه هاه لا أدري.
فيقولان له: ما دينك؟
فيقول: هاه هاه لا أدري.
فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟
فيقول: هاه هاه لا أدري، فيضربانه بمرزبة من حديد، فيغاص في الأرض سبعين ذراعاً، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: يا رب! لا تقم الساعة}.
عباد الله! هذا الذي يحصل بعد الموت وفي القبر، فقسمٌ من الناس توفاهم الملائكة طيبين يقولون: سلامٌ عليكم ألا تخافوا ولا تحزنوا ويبشرونهم بالجنة، وبما فيها من النعيم المقيم، وقسمٌ من الناس توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:٥٠].