[نظرة علي إلى الدنيا]
أيضاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اسمع إلى تلك الأحوال التي أثر بها القرآن: صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر في يوم من الأيام فجلس حزيناً مفرقاً، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته وأخذ يبكي ويقول: [[يا رب! يا رب! يا رب! وجعل يناجي ربه تعالى، ثم قال: لقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت شيئاً بشبههم -الله أكبر! كيف أحوالهم- كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم كأمثال ركب المعزة من كثرة السجود، قد باتوا لله سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله عز وجل وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأن القوم باتوا غافلين، وما رؤي بعد ذلك مبتسماً حتى لحق بربه سبحانه وتعالى]] لا إله إلا الله! أولئك الرجال الذين وصفهم في القرآن ربنا جل وعلا قال: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٧ - ١٨].
عرفوا عظمة القرآن فقاموا بكلام الله جل وعلا حق قيام، ولذلك مدحهم الله جل وعلا في القرآن، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: {نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل، يقول: فما ترك قيام الليل حتى توفاه الله} رضي الله عنه وأرضاه.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، إذا دخلت حلاوة القرآن في قلب المؤمن وعرف القرآن واهتدى بهدي القرآن واستنار بنور القرآن؛ عَرَّفه الحق من الباطل؛ وعَرّفه الحلال من الحرام؛ ودله على عبادة الله عز وجل؛ وقاده إلى كل خير.
إنه القرآن.
هذا علي رضي الله عنه وأرضاه يصفه ضرار الكناني لما طلب معاوية رضي الله عنه من ضرار الكناني أن يصف علياً فقال: [[يستوحش من الدنيا -الله أكبر لماذا؟ لأن القرآن حل في قلوبهم- يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ الذليل -أي: تململ الملدوغ الذي لدغته العقرب- ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا! ثم يقول للدينا: إلي تغررت، إلي تشوقت، هيهات، هيهات غري غيري قد بتتك ثلاثاً -لماذا بتتها ثلاثاً يا علي رضي الله عنك وأرضاك؟ فيخبرك: يا من اغتر بالدنيا فيقول- عمرك قصير، ومجلسك حقير، آه آه من قلة الزاد! وبعد السفر! ووحشة الطريق!]].
هكذا يقول علي رضي الله عنه وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، أجل كيف أحوالنا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! لا إله إلا الله! يقول: آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، كيف أحوالنا أهل التفريط والإضاعة.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! ما أجمل أحوال السلف رضي الله عنهم وأرضاهم.
فيا عباد الله تذكروا دائماً أحوال السلف الصالح، لعل الهمم أن تعلو، فتقتدون بهم، وتحذون حذوهم في أخلاقهم وعباداتهم ومعاملاتهم، قال بعضهم رحمه الله:
من يرد ملك الجنان فليدع عنه التواني
وليقم في ظلمة الليل إلى نور القران
وليصل صوماً بصوم إن هذا العيش فاني
إنما العيش جوار الله في دار الأمان