للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اغتنام الحياة في التزود من الأعمال الصالحة]

أيها الناس! اتقوا الله عزَّ وجلَّ، واعلموا حق اليقين أن الله لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم هملاً، بل خلقكم لطاعته وعبادته في هذه الحياة الدنيا، وإذا انتهت هذه الحياة وافاكم الله جل وعلا بما أحصاه عليكم من الأعمال {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:٧ - ٨].

عباد الله! اعتبروا بهذه الأعوام، كيف تمر بكم وتنقضي، فإنها من أعماركم، ومهما عاش ابن آدم، فإن مصيره إلى الموت.

أمة الإسلام! تيقظوا وانتبهوا من هذه الغفلة، فإن كل يوم يمر بكم يبعدكم من الدنيا، ويقربكم من الآخرة، فالكيٍّس من اغتنم هذه الحياة الدنيا بالأعمال الصالحة، التي تقربه من الله زلفى، وينجو بها من عذاب جهنم.

أيها المسلمون! إنكم في هذه الجمعة، التي هي آخر جمعة من عامكم الذي ستودعونه، والذي سيطوي سجله على ما أودعتموه وخزَّنتموه فيه من الأعمال، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن أحسن فيها واستقام، وويل ثم ويل لمن أساء وارتكب المعاصي والمحرمات، ولقي الله غداً وهو مُصِر على ذلك الإجرام، نعم، هنيئاً غداً يوم القيامة {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩] وهنيئاً لمن يُعطى كتابه باليمين، ويرفعه مسروراً بما فيه، {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:١٩ - ٢٣] فيقال لهم في تلك الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:٢٤] هذا هو المؤمن الذي عمل بالصالحات، وقدم الأعمال الصالحة أمامه عند الله.

أما الذي قضى حياته، وضيَّع أوقاته في غير طاعة الله، فاسمعوا ماذا يقول إذا أخذ كتابه بالشِّمال: {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٥ - ٢٩] فيقال للزبانية: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٣٠ - ٣٢].

نعم.

هذه النهاية، إما إلى الجنة، وإما إلى النار.

أجل يا عباد الله! إذا عرفنا أن النهاية إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ ليقف كل منا مع نفسه، محاسباً ماذا أسلف في العام الذي هو على وشك الانتقال، فإن كان قد عمل خيراً فليحمد الله ويزداد، وإن كان غير ذلك، فليتب إلى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، ويُقلع ويُنيب ويكثر من عمل الحسنات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤].

أجل أيها العاصي، بادر ما دمتَ في وقت الإمكان قبل أن يهجم عليك هادم اللذات، تُب إلى الله قبل إغلاق الباب، وإسبال الحجاب، وطي الكتاب على ما فيه.

عباد الله! يُروى أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال: {أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى، لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي، لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت}.

عباد الله! تذكروا بانقضاء هذا العام انقضاء العمر، وسرعة زوال الدنيا، وسرعة زوال السرور في الدنيا، وسرعة قرب الموت، وبتقصير الأحوال، وبزوال الدنيا وما فيها، فكم وُلِد في هذا العام مِن مولود؟! وكم مات فيه مِن حي؟!

فاغتنموا فرصة العمر يا عباد الله، هذا رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم يرشد ويقول: {اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك} هكذا يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم باغتنام هذه الخمس، قبل حلول أضدادها.

ففي الشباب: قوة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان وشاب ضعُفت قوته، وفترت عزيمته.

وفي الصحة: نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه، وضاقت نفسه، وثقلت عليه الأعمال.

وفي الغنى: راحة وفراغ، فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه وعياله.

أمة الإسلام! في الحياة الدنيا ميدان فسيح لصالح الأعمال، فإذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

إذا مات الإنسان يتبعه ثلاثة، يرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله.

فاتقوا الله عباد الله، واستدركوا ما فات بالتوبة النصوح، واستقبلوا عامكم الجديد بالعمل الصالح، فإن إقامتكم في هذه الدنيا محدودة، وأيامكم معدودة، وأعمالكم مشهودة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:١ - ٨].

اللهم بارك لنا بالقرآن العظيم، وانفعنا بما صرَّفت فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.