{قال كعب: فلبثت بذلك عشر ليال، تكمل لنا خمسون ليلة، من حين نهى عن كلامنا، ثم صليت صلاة الفجر، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشر، يا كعب بن مالك! أبشر، فخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء الفرج.
فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله عز وجل علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إليّ فرساً، وسعى ساع من أسلم قبليّ، وأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أتأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يهنئونني بالتوبة ويقولون لي: لتهنئك التوبة، لتهنئك توبة الله عليك.
فدخلت المسجد وإذا برسو ل الله صلى الله عليه وسلم جالس وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، فكان كعب لا ينساها لـ طلحة.
قال كعب: ولما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا.
بل من عند الله عز وجل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، فقلت: إني ممسك سهمي الذي بـ خيبر.
فقلت: يا رسو ل الله! إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى بما بقي، قال: فأنزل الله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٧ - ١١٩].
قال كعب رضي الله عنه: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين سبقوا}.