[الغلام المؤمن]
أمة الإسلام: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوم من قبل أمته أنهم أوذوا في الله، وصبروا وثبتوا، وهذا الحديث الصحيح فيه عبرة لمن أراد الثبات على دين الله عز وجل، وفيه عبرة لمن أراد أن يتمسك بدين الله عز وجل، ولا ينظر إلى كلام المغرضين وسفههم وتثبيطهم، بل يعتزم بالله جل وعلا، كما سنذكر في هذا الحديث الصحيح الذي يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخص بذلك الشباب الذين وفقهم الله للهداية والاستقامة، أخصهم وأحثهم أن يعوا هذا الحديث الذي حصل فيه امتحان عظيم لشاب من الشباب ومع ذلك صبر وامتحن، وقتل في الله ولله.
يقول رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم: {كان ملك في من كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث الملك إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه، وسمع كلامه -أي: قعد هذا الغلام إلى الراهب وسمع منه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب، وقعد إليه -فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال الراهب: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو كذلك -أي: الغلام- إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال -أي: الغلام-: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب؟ وكان الراهب على دين عيسى عليه السلام، فأخذ -أي: الغلام- أخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس.
فأتى الراهب -أي: أتى الغلام إلى الراهب- فأخبره، فقال له الراهب: أي بني! أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي للناس من سائر الأدوية بإذن الله تعالى, فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل.
فقال له الغلام: فإن أنت آمنت بالله عز وجل، دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى -أي: الأعمى- إلى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟
قال: ربي.
قال: ولك رب غيري؟
قال: ربي وربك الله -لا إله إلا الله ما أجمل الإيمان إذا رسخ في القلب، ما أجمل الإيمان إذا تغلل في القلوب فإنه لا تزلزله الجبال الراسيات- فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله.
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه.
ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه.
ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه -أي: الملك- فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه.
وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، قال الغلام: اللهم أكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك -لا إله إلا الله، اللهم إنا نسألك إيمانا دائماً كاملا، يباشر قلوبنا ويقيناً صادقا- فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟
قال: كفانيهم الله نعم المولى ونعم النصير رب العالمين.
فدفعه إلى نفر من أصحابه -الملك أيضاً يحتال إلى حيلة يحارب الله عز وجل والله هو القوي- فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور -أي: سفينة صغيرة- فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به, فقال: اللهم أكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا.
وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله -لا إله إلا الله، الله أكبر! الكبرياء لله والعظمة لله والقوة لله- فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به.
قال: وما هو؟
قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الملك الناس في صعيد واحد، وصلبه على الجذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في موضع السهم فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فأوتي الملك الضعيف الحقير الذليل، الذي يريد أن يحارب رب العالمين، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس ماذا فعل هذا الصنديد العنيد؟
أمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه! اصبري فإنك على الحق} حديث صحيح رواه مسلم.
والله عز وجل يقول في محكم البيان تصديقاً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:٤ - ٩].
اسمعوا بماذا توعدهم الله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:١٠] ثم اسمعوا ما وعد الله به المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:١١] إي والله إنه لفوز كبير!