[مواقف للذكرى والاعتبار]
الحمد لله الذي رفع قدر ذوي الأقدار عن الركون إلى هذه الدار، ومنح صفاء إحسانه لأهل تلك الدار، ونزَّل تصاريف الأقدار في أهل الجنة والنار، فسبحان مَن يسَّر كلاًّ لما خُلق له والذي قال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨] أحمده سبحانه وأشكره، وللشكر على أصحاب الشكر آثار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الناصح الأمين، والبشير النذير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلِّم تسليماًَ كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:٣٣].
ويقول جلَّ وعَلا: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٨ - ١٩].
ويقول جلَّ وعَلا: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:١٥ - ١٧].
ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعتُ مثلها قط، فقال صلى الله عليه وسلم: {لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
وزاد أبو ذر في روايته: ولَمَا تلذذتم بالنساء على الفُرُش، ولخرجتم إلى الصُّعَدات تجأرون إلى الله} وفي رواية: {عُرِضَت عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم من الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً}.
فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه، فطأطؤا رءوسهم ولهم خنين، أي: جعلوا يبكون؛ لأنهم -رضي الله عنهم- أدركوا بقوله صلى الله عليه وسلم: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً} أدركوا صوراً شتى ذَكَروا الجنة وما أعد الله فيها لأهلها من النعيم المقيم وذَكَروا النار وما فيها من النكال والعذاب الأليم ذَكَروا عظمة الجبار في انتقامه من الظالمين والعصاة ممن اتبع هواه وكان من الغاوين.
وأنتم يا عباد الله! تذكروا أن الدنيا دار فناء ولا بقاء لها ولا لأهلها، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥]!
تذكروا النهاية المحتومة لكل حي، وما يكون في آخر المرحلة من نزع الروح والاحتضار، ومعاناة سكرات الموت! ويا لها من سكرات!
تذكروا جمود العينين، ويَبْس اللسان! ووقوف الجنان عن النبضات!
تذكروا وأنتم جثث هامدة، قد انقطعت منكم الآمال!
تذكروا صورة البعث والنشور، وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين!
وقبل ذلك: تذكروا القبر! واعلموا أن عذاب القبر ونعيمه حق لا مرية فيه، إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
تذكروا قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، حُفاةً عُراةً غُرْلاً في موقف القيامة وأهواله!
تذكروا دُنُوَّ الشمس من الخلائق!
تذكروا تطاير صحف الأعمال، إما إلى اليمين وإما إلى الشمال!