[مولد موسى عليه السلام وترعرعه في قصر فرعون]
إن القبط الذين كانوا يستخدمون بني إسرائيل شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل بسبب قتل ولدانهم الذكور, وخشي أن تتنفانى الكبار مع قتل الصغار فيصيرون هم الذين يقومون بما كان يقوم به بنو إسرائيل من الخدمة, فأمر فرعون بقتل الأبناء عاماً وأن يتركوا عاماً, فذكروا أن هارون عليه السلام ولد في العام الذي سمح فيه من القتل, وأن موسى عليه السلام ولد في عام قتل الأبناء, ما أعظم حكمة الله! وما أجلَّ قدرة الله!
ولد موسى عليه السلام في العام الذي تقتل فيه الأبناء, فضاقت أمه به ذرعاً، فأوحى الله إليها إلهاماً ألا تخافي ولا تحزني؛ لأن هذا المولود سيكون له شأن عظيم, وسيحفظه الله الذي خلقه وأوجده من العدم, سيحفظه من كيد فرعون, ثم يجعله من المرسلين, وقذف في قلب أم موسى السكينة وأمرها أن ترضعه حتى إذا خافت عليه تصنع له تابوتاً من خشب ثم تضعه فيه وتلقيه في البحر, وقد جعلت في التابوت حبلاً إذا جاءها أحدٌ أرسلت موسى الذي هو في التابوت في البحر, فإذا ذهبوا استرجعته إليها.
وتأتي الحكمة الإلهية والقدرة الربانية, فتأخذ التابوت بما فيه وتلقيه في دار فرعون, فتأخذه الجواري فلم يتجاسرن على فتحه حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية بنت مزاحم رضي الله عنها, فلما فتحت التابوت وكشفت الحجاب, رأت في التابوت وجهاً يتلالأ بتلك الأنوار النبوية, فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حباً شديداً جداً, وهذا مصداق قول الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:٣٩].
فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه, فاستوهبته آسية رضي الله عنها وقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:٩] , فقال لها فرعون المحروم المطرود من رحمة الله: قرة عينٍ لك أما لي فلا حاجة لي فيه, قال بعض العلماء: لو قال قرة عين لي لهداه الله به كما هدى آسية رضي الله عنها, ولكن رفض ذلك فلم يسعد بل بقي شقيا.
وأخذت آسية زوجة فرعون تبحث لموسى عن مرضعة, واشتد به الجوع واشتد به البكاء وهو لا يقبل ثدي أحد, لأن الله قال: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:١٢] فهو لا يقبل ثدي أحدٍ من المرضعات, حتى خشيت عليه امرأة فرعون من الهلاك.
ورأت أخت موسى ذلك وهي ترقبه من بعد, فجاءت إلى آسية وعرضت عليها أن تأتي لها بامرأة مرضعة أمينة ناصحة تتعهد هذا الرضيع مقابل أجرٍ لها, فقالت لها امرأة فرعون: ائتيني بها فإن أخذ ثديها أكرمتها بأنواع من الإكرام.
فانطلقت أخت موسى حتى جاءت إلى أمه فأخبرتها الخبر, فأتت أمه فلما رأته كادت أن تقول: هذا ابني لولا أن الله ثبتها حتى لا يشعر آل فرعون بهذه؛ لأنها أمه، فلما وضعته في حجرها التقم ثديها وأخذ يرضع حتى ارتوى, ففرحت آسية فرحاً عظيماً, وطلبت منها أن تمكث في القصر عندها لترضع لها هذا الغلام, ووعدتها بالإعطاء والإكرام, قالت لها أم موسى: إن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب إلى بيتي وأتعهده بالعطف والرعاية, كما أتعهد ولدي، وأنا لا أستطيع أن أدع بيتي وأولادي من أجل هذا الغلام.
فرضيت آسية أن تدفعه لها على أن تأتي به في كل فترة لتراه ثم تعيده لها, وهكذا حقق الله وعده فرد موسى إلى أمه لترضعه وهي آمنة مطمئنة بعدما كانت تضعه في التابوت وتخبيه في البحر خوفاً من فرعون صار يأكل ويصرف عليه من بيت فرعون, وأمه آمنة مطمئنة ولله في ذلك حكمة, قال الله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:١٠ - ١٢] صدق الله العظيم، لا يوجد أنصح من الأم لابنها: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:١٣] رضع موسى من أمه وتعطى الأجر على رضاع ولدها, ولله في ذلك حكمة.