للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إثابة الله للمحسن وعقابه للمسيء]

الحمد لله رب العالمين، القائل وقوله الحق: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:٥٥ - ٥٧].

مالك يوم الدين، الذي بدأ الخلق وهو يعيده، وهو على كل شيء قدير، وهو الذي خلق الخلق ليعبدوه؛ فيجازيهم بعملهم والله بما يعلمون بصير، فسبحانه من رب عظيم، وإله غفور رحيم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال وقوله الحق: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:١٠ - ١٣].

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، أرسله الله بين يدي الساعة، فختم به الرسالة، وأكمل به الدين، وأتَمَّ به النعمة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:-

فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن الله عز وجل خلقكم وأوجدكم في هذه الدار الدنيا للابتلاء والامتحان، ليرى المطيع فيجزيه ثواباً حسناً ومقيلاً في فسيح جناته، ويرى العاصي فيعاقبه بما يستحق من العقوبة والنكال، فاتقوا الله عباد الله، {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:٣٣].

عباد الله اتقوا يوماً فيه {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٧].

اتقوا الله يا عباد الله واخشوا يوماً ينقسم الناس فيه إلى قسمين: سعداء وأشقياء، فأما السعداء الذين جمعوا الأموال في البنوك من الربا والقمار والميسر، الذين عمروا الفلل، الذين شيدوا القصور، الذين كسدت تجارتهم في هذه الحياة، لا، لا يا مسكين.

السعداء الذين اتقوا ربهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراًَ، فما جزاء هؤلاء السعداء؟ جزاؤهم أن وجوههم {يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:٣٨ - ٣٩] وأما الأشقياء العصاة الذين تمادوا في معاصيهم، وفي ظلمهم، وفي عنادهم، وفي عتوهم وإذا قيل لهم: اتقوا الله، قالوا: التقوى هاهنا، ويشيرون إلى صدورهم، وهم يخالفون أمر الله ورسوله فوجوههم {يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:٣٩ - ٤٠] {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس:٢٧].

عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:٢٨١].

يومٌ وياله من يوم عظيم يجمع الله فيه الخلائق الأولين والآخرين، في صعيد واحد، في أرض مستوية، ليس عليها جبل ولا سهل، ولا نهر، يُسمِعهم الداعي، وينفذهم البصر، أجسامهم عارية، وأقدامهم حافية، وقلوبهم وجلة خائفة، {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} [القمر:٨] حضرت الحقائق، ووقعت الواقعة، وجاءت القيامة، {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} [القمر:٨] شاخصة أبصارهم في {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].

في ذلك اليوم يحشر الناس على ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركباناً، وصنف يمشون على وجوههم، فالذي أقدرهم على المشي على الأقدام، قادر على أن يجعلهم يمشون على وجوههم، في يوم {تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:٨ - ٩] تدنو الشمس من رءوس الخلائق قدر ميل؛ فيعرقون على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم من يكون العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يكون العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ليس هناك ليل ولا نهار، ولا شمس ولا قمر، إلا شمس حامية قد أرسلت على رءوسهم في ذلك الموقف العصيب، قد كورت الشمس، وانكدرت النجوم، {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:١٠٨] {وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:١١١].

في ذلك اليوم يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، تنصب الموازين لوزن الأعمال {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:١٠٢] الناجحون الفائزون، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:١٠٣].

وما أدراك ما جهنم؟! نار حامية، جمعت فيها الأهوال، جمعت فيها العقارب والحيات، والسلاسل والأغلال، يوم القيامة يؤتى بالرجل له صلاة وصيام وزكاة، وقد ضرب هذا وأخذ مال هذا، وشتم هذا، وظلم هذا، فيجتمعون عليه الغرماء -الله أكبر الله أكبر- كلاً يريد حقه، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي لهم حق أُخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم ألقي في النار، الله أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.