[فضل شهر رمضان]
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان غرة وجه العام، وأجزل فيه الفضائل والإنعام، وشرف أوقاته على سائر الأوقات، وفضل أيامه على سائر الأيام، وخصه على سائر الشهور بمزيد من الفضل والإكرام، عمر نهاره بالصيام، ونور ليله بالقيام، أحمده وأشكره على إحسانه العام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالكمال والتمام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وأتقى من تهجد وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أمة الإسلام! بشراكم بشراكم! يطل عليكم بعد أيام قليلة شهر كريم، وموسم عظيم، خصه الله تعالى على سائر الشهور بالتشريف والتكريم، أنزل الله فيه القرآن العظيم والذكر الحكيم، فرض صيامه شكراً على هذا الإنعام والفضل العميم، وجعل صيامه أحد مباني الإسلام التي لا يقوم على غيرها ولا يستقيم، وسنَّ لكم أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قيامه.
فهنيئاً لكم يا أمة الإسلام، فهو شهر الخيرات والبركات، شهر إجابة الدعوات، شهر إقالة العثرات، شهر مضاعفة الحسنات، شهر الإفاضات والنفحات، شهر إعتاق الرقاب الموبقات، شهرٌ لا يعدل به سواه من الأوقات، الحسنة فيه بألف حسنة فيما سواه، والفريضة فيه تعدل سبعين فريضة لمن تقبل منه مولاه.
فيا ذا العقول السليمة! والهمم العالية، والمطالب الرفيعة السامية، اغتنموا أوقاته بالجد قبل فواتها، واعزموا على هجر البقالات.
عباد الله: استقبلوا شهر رمضان بنية واحتساب فقد أخبرنا الناصح الأمين نبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه}.
أمة الإسلام: أمة محمد! كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه يقول: {قد جاءكم شهر رمضان شهرٌ مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم}.
ذكر بعض العلماء في بعض الكتب: أن لله تعالى موضعاً حول العرش يسمى حظيرة القدس، وهو من نور، وفيه ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، يعبدون الله لا يفترون ساعة، فإذا كانت ليالي رمضان استأذنوا ربهم عز وجل أن ينزلوا إلى الأرض ويحضروا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح، فكل من مسهم أو مسوه سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، لما سمع عمر رضي الله عنه ذلك قال: [[نحن أحق بهذا الفضل والأجر]] فجمع الناس على صلاة التراويح رضي الله عنه وأرضاه.
ولا يظن البعض أن عمر هو الذي سَنَّ صلاة التراويح، بل سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بأصحابه بعض الأيام، ولكنه خشي أن تفترض عليهم فتركها رحمة بهم صلوات الله وسلامه عليه.
يا عباد الله: أقبل شهر رمضان الذي اختاره الله عز وجل زمناً لنزول القرآن، وانطلاقة الإيمان، شهر رمضان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل يوم بدر، وانتقلت فيه الأمة من أمة حيرانية متلطخة بأدران الوثنية إلى أمة مستنيرة مهتدية بنور الإيمان، تتلقى تعاليمها من السماء بواسطة الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فأصبحت لا تدين إلا لله الواحد القهار وحده لا شريك له.
ومنذ أن وجد هذا الشهر ونزل فيه القرآن في ليلة القدر المباركة التي هي خيرٌ من ألف شهر، إلا وبركاته تتوالى على المسلمين، فلقد حصل فيه يوم الفرقان يوم غزوة بدر الكبرى التي نصر الله بها الإسلام والمسلمين، وأذل بها الشرك والمشركين، يوم بدر الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل.
أيضاً: حدث في رمضان فتح مكة الذي دخل الناس بعده في دين الله أفواجاً، فكما كان موسماً وزمناً لتلكم الفضائل والعبادات والوقائع الإسلامية فهو لا يزال ولن يزال موسم إفضال وإنعام من الكريم المنان، موسم تحول من غفلة وصدود إلى انتباه وإقبال على الله، موسم تحول من رذيلة إلى فضيلة، ومن تمادٍ واضمحلال وانهماك في الماديات إلى تحليق في سماء الروحيات.
وحري بهذه الأشياء أن توجد من نفس صاحبها نفساً روحية، تحلق به في الدنيا مع عالم السماء الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وفي الآخرة مع الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:٦٩ - ٧٠].
فاتقوا الله أيها المسلمون، واشكروه على ما منَّ به عليكم، واسألوا الله عز وجل أن يوفقكم لتدركوا شهر رمضان، فكم من نفس هذه الأيام القليلة سوف تخترمها المنية ولا تدرك شهر رمضان.