وهذا نبي الله صالح عليه السلام أرسله الله إلى قبيلة مشهورة يقال لها ثمود، وكانوا عرباً من العاربة يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك، وقد مرّ به رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين، فلما نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود واستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها وطبخوا، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، أمرهم أن يريقوا القدور -أي: يكبوا القدور- وأن يعلفوا العجين الإبل، وارتحل بهم صلى الله عليه وسلم حتى نزل عند البئر التي تشرب منها الناقة، وقال لهم صلى الله عليه وسلم -اسمعوا يا من تأخذون آلة التصوير! اسمعوا يا من تأكلون وتشربون عند ديار المعذبين! ولا تبكون ولا تعتبرون- يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام:{لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم} مع الأسف الشديد ما يفعله البعض من الناس من الضحك والمزاح واتخاذ الصور التذكارية فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون! كانت قبيلة ثمود تدين بعبادة الأوثان، وتكفر بالله الواحد الديان، فبعث الله إليهم صالحاً عليه السلام، يذكرهم بنعم الله ويهديهم طريق الفوز والسعادة، وأنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم عاد، وأمرهم بالتقوى، ونهاهم عن عبادة الأصنام، فظلوا متمادين في غيهم، عاكفين على عبادتهم الباطلة، وكانوا أهل خصب ونعيم، لما لهم من الخيرات الوافرة, والجنات الزاهرة, والعيون الجارية، وقد ذكرهم الله بهذه النعم فآمن منهم نفر قليل، وأكثرهم كذبوا وكفروا برسالة الله التي جاء بها صالح عليه السلام، وعتوا في طغيانهم عتواً كبيراً، وطلبوا من صالح معجزة تشهد بصدقه، فجاءهم بمعجزة الناقة، وقد كانت آية عظيمة دالة على صدق صالح عليه السلام، وقد حذرهم صالح من التعرض للناقة بسوء، وأنذرهم عذاب الله إن هم أقدموا على قتلها، ولكن النفوس العاتية التي لا تسمع موعظة ولا تقبل نصيحة، والتي قد أعماها حب التمرد والطغيان، وأصم آذانها عن قبول دعوة الله، قد أبت إلا الإجرام.
فأقدموا على عقر الناقة بغياً وعتواً، وكان أول من سطا على الناقة الشقي اللعين قدار بن سالف، فعقرها فسقطت على الأرض فابتدرها الرجال بأسيافهم يقطعونها، وكانوا تسعة كما أخبر الله عز وجل:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}[النمل:٤٨] وقد هموا بقتل نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم بعد قتل الناقة، لا سيما بعد أن أنذرهم بعذاب الله، وتوعدهم به بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة، قال الله تعالى:{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}[هود:٦٥] فأرسل الله على ذلك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة من السماء رضختهم ودمرتهم قبل قومهم.
قال ابن كثير رحمه الله: "وأصبحت ثمود في اليوم الأول من موعد حلول العذاب، وقد اصفرت وجوههم، ثم أصبحوا في اليوم الثاني وقد احمرت وجوههم، ثم أصبحوا في اليوم الثالث وقد اسودت وجوههم كما أنذرهم صالح عليه السلام، فلما انتهت الأيام الثلاثة ومع شروق الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس، وسكنت الجوارح والحركات، وخشعت الأصوات، وحقت الحقائق، فأصبحوا في دارهم جاثمين، جثثاً هامدة لا أرواح فيها ولا حراك {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا}[الشمس:١٤ - ١٥] وأما صالح عليه السلام والذين آمنوا معه، فقد نجوا مما لحق بقومهم من العذاب.