[قتل موسى للقبطي وهروبه إلى مدين]
شب موسى عليه السلام في بيت فرعون وعاش فيهم معززاً مكرماً حتى إذا بلغ أشده دخل ذات يوم من الأيام المدينة، وبينما هو يتجول في طرقها إذ هو برجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر قبطي من آل فرعون وقد اعتدى القبطي على الإسرائيلي، فلما مر موسى استغاثه الإسرائيلي ليخلصه من شر ذلك القبطي، فأقبل نحوه موسى فوكزه أي: ضربه بجمع يده فقضى عليه, وخر القبطي على الأرض ميتاً, ولم يرد موسى قتله عليه السلام, إنما أراد إبعاده فكانت القاضية.
فحزن موسى على قتله, وندم على ما حدث, وتنحى يستغفر الله ويطلب من الله الرحمة والرضوان, فلما قتله أصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار, فأخبر فرعون بالخبر، فأمر جنده أن يبحثوا عن موسى ويأتوه به ليقتله حتى لا يتجرأ بنو إسرائيل على قتل أحد, فذهبوا يفتشون في طرقات المدينة عن موسى.
وجاء رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه فأخبر موسى الخبر, وأمره أن يخرج من أرض مصر؛ لأن الجنود يبحثون عنه يريدون قتله, فتوجه موسى إلى أرض مدين ودعا ربه أن يهديه الطريق وينجيه من شر فرعون, وبقي يمشي حتى وصل إلى مدين، قال ابن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة وترجمان القرآن ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينهما مسيرة ثماني ليال, لم يأكل إلا البقل وورق الشجر, وكان حافيا فسقطت نعلا قدميه من الحفاء, وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه, وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع, وإنه لمحتاج إلى شق تمرة, وبينما هو جالس للاستراحة أبصر امرأتين ترعيان الأغنام تريدان سقاية أغنامهما من تلك البئر الكبيرة؛ لأن القوم إذا سقوا الأغنام جعلوا عليها حجراً لا يزلزله عشرات الرجال, ولكن لما رأى موسى عليه السلام ضعف هاتين المرأتين عليه أقبل إلى تلك المرأتين، ونزع تلك الحجر من البئر وسقى لأغنام تلك المرأتين, فعجبتا تلك المرأتان من صنع هذا الرجل الذي أعطاه الله القوة, فلما رجعت المرأتان إلى أبيهما أخبرتاه بخبر هذا الرجل, وطلبتا منه أن يكرمه على هذا الصنيع الجميل, وأن يستأجره لرعاية الغنم فأرسل واحدة منهن لتدعوه إلى أبيها, فجاءته وهي تمشي على استحياء فقالت له: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا, وإنما صرحت له بهذه لئلا يوهم كلامها الريبة, وهذا من تمام ذكائها وعفتها وصيانتها, فلما جاءه وقص عليه القصص, قال له شعيب: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:٢٥] وزوجه ابنته وهو يرعى الغنم, حتى أتم المدة وهي عشر سنين، كما ورد في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحكمة في رعاية الغنم من جهة الأنبياء والمرسلين هي أن يتعودوا على السكينة والتواضع, وليكون ذلك مقدمة لسياسة الأمة وقيادتها, كما يقود الراعي غنمه, وهكذا الأنبياء الكرام انتقلوا من رعاية الغنم إلى قيادة الأمم, صلوات الله وسلامه عليهم.
وبعد أن قضى موسى الأجل الذي بينه وبين شعيب عزم على الرجوع إلى أرض مصر مع أهله, وبينما هو في الطريق في ليلة مظلمة باردة, تاه في الطريق, فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً, فلما وصل قريباً من جبل الطور رأى نوراً عظيماً ممتداً من عنان السماء إلى شجرة عظيمة هناك, فتحير موسى وارتعدت فرائصه, فسمع خطاب الله جلَّ وعلا يأمره أن يخلع نعليه {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه:١٢] ثم يدخل ذلك الوادي المقدس حتى يقترب من جبل الطور؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيكلمه وسيجعله رسولاً يرسله إلى فرعون, ليبلغه رسالة الله جلَّ وعلا, يقول الله جلَّ وعلا: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه:٩ - ١٤] لما تلاها عمر بن الخطاب دخل الإيمان في قلبه, {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:١٤].
وللقصة بقية في الخطبة الأخيرة إن شاء الله.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.