[حقارة الدنيا وذم الاغترار بها]
وقبل أن نغادر هذه الحياة الدنيا نبين لك ما فيها من العيوب, وقد جمعت لكم كلمات كلكم يعرفها، ولكن من باب التذكير امتثالاً لقول رب العالمين: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥].
إن الأجل منا قريب لا شك في ذلك, ولكننا اشتغلنا بالدنيا الدنيئة, فأشغلتنا عن الاستعداد لما أمامنا؛ فتركنا العمل وسوفنا بالتوبة، وكأننا لم نسمع ولم نقرأ قول الحق جل وعلا: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:١ - ٤] وكأننا لم نسمع قول الله جل وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:٢٠] ولكن الفرق -يا عبد الله- في الآخرة: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠].
ولنلق الأسماع لكلام ربنا، الذي نسمعه دائماً مرات وكرات، يحذرنا ربنا جل وعلا، ألا نغتر بهذه الدار الفانية فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:٥].
وكما حذرنا الله جل وعلا في كتابه من الاغترار بالدنيا؛ فقد حذرنا أيضاً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في صائف فرفعت له شجرة فقال تحت ظلها -أي: نام تحت ظلها وقت القيلولة- ساعة ثم راح وتركها} ويقول صلى الله عليه وسلم لتلميذ من تلاميذه: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} فيقول هذا التلميذ: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وخذ من صحتك لمرضك, ومن حياتك لموتك]] ويقول في حديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: {لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء} وهذا فيض من غيض مما جاء في ذم الدنيا التي سلبت عقولنا وأخذت أوقاتنا, وما جاء في حقارتها والتحذير من فتنتها, والتنفير من الانغماس في ملذاتها, ومن الاغترار بزخارفها البراقة التي أعْمَتْ الكثير عن الطريق القويم, وشغلتهم عن طاعة الله جل وعلا حتى جاءهم الأجل وهم في غيهم يعمهون.
وقد ذمهم الله تعالى بقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:٥٩] وهل وجدنا أولئك؟ نعم لقد وجدناهم اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلوات, وإن ماتوا من غير توبة فموعدهم غياً, والغي هو وادٍ في جهنم.
فيا عباد الله! إن العاقل من يتعظ بغيره ممن صرعتهم الدنيا وأوردتهم المهالك؛ حتى إذا هجم على أحدهم هادم اللذات قال: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] فماذا يقال له؟ {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠].