للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحذر من الانغماس في الحياة الدنيا]

واعلم أن من آثر الحياة الدنيا، فإن له وعيداً شديداً، وقبل أن نقرأ هذا الوعيد الشديد يقول البعض من الناس: أتريدنا أن نلزم المساجد، ونقضي وقتنا في ذكر وقراءة قرآن ونموت جوعاً، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضةً]].

نقول لك: أنت أفتيت نفسك جزاك الله خيراً، صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: [[السماء لا تمطر ذهباً ولا فضةً]] وأمرت ببذل الأسباب، ولكن الذي أريد منك، وأريد من نفسي المقصرة الأمارة بالسوء أن نقتصد في طلب الدنيا، وأن نجعل الدنيا في أيدينا ولا نجعلها في قلوبنا، وإلا فما مرضت القلوب وقست إلا لأن الدنيا نزلت فيها، وصارت الآخرة في أيدينا.

نعم.

{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٦ - ١٧] فعليك -يا عبد الله- أن تستعين بالله عز وجل، وأن تفعل الأسباب، وأن تطلب الرزق الحلال كما قال بعض السلف رحم الله:

خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن

ثم يقول الشافعي رحمه الله:

وما هي إلا جيفةٌ مستحيلةٌ عليها كلاب همّهنَّ اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها

هذه الدنيا عرف قدرها السلف الصالح رحمة الله عليهم، فلماذا عمر رضي الله عنه وأرضاه يأكل خبز الشعير مع الزيت وهو الخليفة الراشد الذي مفاتيح خزائن بيت مال المسلمين بيده؟ ولماذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وما شبع من الدقل يوماً؛ وهو رديء التمر؟

لماذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونةٌ على شعير عند يهودي؟ كل هذا لعدم الاعتناء بالدنيا، وهل ماتوا جوعاً قبل أن يأتيهم الأجل؟ لا.

والله ما ماتوا جوعاً قبل أن يأتيهم الأجل، لو كان الجوع يميت أحداً لمات أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، يقول: [[كنت أخر صريعاً من الجوع، ويطوى عنقي ويحسبون أن بي جنوناً ووالله ما بي إلا الجوع]].

الله أكبر! الله أكبر يا عباد الله! ومع هذا فتحوا الفتوحات وحفظوا لنا ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نحن ولا حولا ولا قوة إلا بالله! مع كثرة ما بسط لنا من زينة الحياة الدنيا تجدنا مقصرين في طاعة الله عز وجل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه، وتقول له عائشة رضي الله عنها: {لمَ تفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً} ثم يقول صلى الله عليه وسلم في موعظة: {لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً} وأيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: {كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر} أي: متى يؤمر بنفخ الصور.

فيا عبد الله: قدر لهذه الدنيا قدرها، وأخرجها من قلبك، واحتقرها، واجعلها في يديك، واعمل واكتسب الأرزاق بقصدٍ، واعقد النية في عملك هذا أن تستعين به على طاعة الله عز وجل.

يقول البعض من الإخوان: لقد كان بعض الصحابة أغنياء، فلماذا تُحذِّرون من الدنيا؟

فنقول له: تعال -يا عبد الله- لنجلس قليلاً حتى نرى ما هي حالة الصحابة رضي الله عنهم، هذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه أتته قوافلٌ كثيرةٌ من العراق، وقد أصاب المدينة مجاعةٌ عظيمةٌ، فأتاه التجار يريدون أن يشتروها منه بثمنٍ كثير، فقال: قد بعتها، ويريد أنه باعها من الله عز وجل، الذي من تاجر معه ربح، هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، أما نحن، فأغنياؤنا يتحيَّنون فرص الغلاء فيدخرون ما عندهم حتى يحتكروه ويضيقوا الخناق على الآخرين، والبعض من الأغنياء يحارب الله ورسوله علانيةً بالربا، كل ذلك حباً للدنيا والدينار -نسأل الله العفو والعافية- ونسي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرَّج الله عنه كربة من كرب الدنيا والآخرة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ونسي قوله صلى الله عليه وسلم: {ومن يسر على معسرٍ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة}.

فهل تحققنا ذلك يا عبد الله؟ لو تحققنا ذلك وآمنا وملأ الإيمان قلوبنا لاشتقنا إلى الآخرة، واشتقنا إلى جنة عالية قطوفها دانية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تنسوا العظيمتين} وهل العظيمتان أمريكا والروس كما يزعم الناس؟

لا.

العظيمتان: الجنة والنار يا عبد الله! تذكر الجنة والنار، تذكر إذا انصرف الناس هل يؤخذ بك ذات اليمين إلى الجنة، أو يؤخذ بك ذات الشمال إلى النار تذكر يا عبد الله!